main

أوقفت أراضي ومزارع لوجه الله: ماذا تعرف عن إسهامات المرأة بظفار في الأوقاف؟

إسهامات المرأة بظفار في الأوقاف

أثير- تاريخ عمان

تلخيص: د. محمد بن حمد العريمي

كان للمرأة العمانية دورٌ بارز في مختلف المجالات الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبرز العديد من الأسماء النسائية المهمة التي كان لها إسهاماتها المختلفة، ومن بين تلك المجالات؛ مجال الأوقاف الذي حظي باهتمامٍ كبير من قبل المرأة العمانية، وسردت لنا أوراق التاريخ العماني العديد من الوقوفات النسائية المختلفة.

وقد أسهمت المرأة في ظفار كما هو الحال في عُمان عمومًا في انتشار الوقف وإثراء التكافل المجتمعي بصورة ملحوظة ومتكررة، وهذا ما يقودنا إلى ضرورة تسليط الضوء على تلك الوقفات الجديرة بالاهتمام وإشهارها من خلال استعراض جانب من الورقة العلميّة المهمّة التي تناولت هذا الجانب تحت عنوان: “الوقف النسائي في ظفار(قراءة في الوثائق والسجلات)”، وهي ورقة بحثية مقدمة من قبل الباحث الدكتور حسين بن علي المشهور في ندوة الوقف النسائي: آفاق التطوير والاستدامة التي نظّمتها جامعة نزوى ممثلة في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدارسات العربية والإنسانية، بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في 24 أكتوبر 2023م.

ملامح من تاريخ الوقف في ظفار:

بدأ الباحث الدكتور حسين المشهور ورقته باستعراض جانب من تاريخ الوقف في ظفار، ووجود العديد من الإشارات التي وردت في المصادر التاريخية تُدلِّل على انتشار الوقف منذ قرون، وبروز بعض الشخصيات التي أسهمت في ترسيخ هذه الأوقاف وتنظيمها لتحقق المصلحة المرجوة من الوقف، وتعود بعض هذه الأوقاف إلى القرن السابع الهجري، إذ تذكر المصادر التاريخية أن السلطان سالم بن إدريس بن أحمد الحبوضي آخر سلاطين الدولة الحبوضية والمتوفى سنة 678هـ/1279م كان مهتمًا بالأوقاف وتُحسب له الكثير من الأفضال في هذا الجانب. كما أورد الدكتور المشهور وجود إشارة أخرى تعود إلى القرن السابع الهجري مفادها أن السلطان المظفر يوسف بن عمر بن علي الرسولي، وهو أول من تولى ظفار من الرسوليين سنة 678هجري/1279م كان من المهتمين ببناء المساجد والمدارس في مختلف أنحاء دولته، وأوقف ما يسد لإدارة تلك الأربطة والمدارس وكفاية المرتبين فيها.

كما أشار المشهور إلى أنه كان للعلماء دور بارز في ترسيخ مفهوم الوقف وخير مثال على ذلك ما قام به الشيخ محمد بن أبي بكر ابن الشيخ سعد الدين بن علي الملقب بصاحب الرباط، وهو من فقهاء وأعيان القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، حيث أخذ الشيخ محمد رباطا (زاوية) وبنى مسجدا وحفر بئرا وأوقف عليه أوقافا.

ملامح من تاريخ الوقف في ظفار:

ويذكر المشهور أن الاهتمام بالوقف ظهر بصورة رسمية في عهد السيد محمد بن عقيل الذي حاول تنظيم الأوقاف وحصرها، فطلب من كاتب العدل الشيخ محمد بن فرج السيل الغساني تنظيم الوقف وتوثيقه، وكان ذلك في سنة 1241هـ/1825م، وأنه لم يكتفِ بتثبيت وتنظيم الأوقاف فقط، وإنما كانت له إساهمات جليلة في الجانب الوقفي، إذ أوقف الكثير من الأراضي والطرق والممرات المسماة محليًا بالمقاييف في سبيل المصلحة العامة وفك النزاعات، وأوقف كذلك أوقافا أخرى لصالح جنده، وعساكره، وذويه، وأقربائه.

كما يشير الدكتور حسين المشهور إلى أنه في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وبدايات القرن الرابع عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي قام برعاية أوقاف ظفار القاضي أحمد بن علي بن عمر الحداد الذي تولى قضاء ظفار في عهد السلطان تركي بن سعيد وابنه السلطان فيصل بن تركي، وتولى بعده رعاية الأوقاف لفترة وجيزة السيد أحمد بن محمد القشاشي باعمر زمن السلطان تيمور بن فيصل.

ملامح من تاريخ الوقف في ظفار:

مجالات الوقف

أشار الدكتور المشهور إلى عدّة مجالات هي: مجالات دينية: وتتمثل في وقف المزارع كاملة، أو أسهم فيها، والأراضي التجارية، والسكنية التجارية، والسكنية، والمحلات التجارية، على بيوت الله تعالى، ووقف المصاحف والكتب على المساجد، يُهدى ثوابها لأموات الواقفين، ومجالات اقتصادية: تأجير المحلات التجارية، والأراضي التجارية، والسكنية التجارية، والسكنية، والزراعية الموقوفة، ومجالات علمية وتربوية: كالوقف على دور العلم، وعلى طلبة العلم، وأربطة العلم، وعلى المعالمة، ومجالات اجتماعية: كوقف الذرية والوقف على الفقراء والمساكين.

مجالات الوقف

الوقف النسائي ونماذج من السجلات الوقفية:

عند تناوله لدور المرأة في ظفار في مجال الأوقاف، يذكر الباحث الدكتور حسين المشهور أن المصادر حفظت بعض الأخبار عن الوقف النسائي في ظفار ولعل أقدم تلك الأوقاف الموثقة وقف نبيلة بنت الملك المظفر الرسولي التي عاشت في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وهي امرأة وصفت بالخير والصلاح، أنشأت مدارس وقفية في جهات عدة، وهي أخت سلطان ظفار، الواثق إبراهيم بن المظفر يوسف بن عمر بن علي الرسولي (ت 711هجري/1311م) الذي بنى مدرسة في ظفار وخصص وقفًا لها. ويبدو أنها أنشأت عددًا من المساجد والمدارس، وأوقفت عليها أوقافًا كعادة نساء بني رسول في الإنفاق على المدارس والجوامع والتنافس في أعمال البر، وذكرها أيضا الخزرجي في العقود اللؤلؤية في معرض حديثه عن السلطان الرسولي الآتي: “ابتنت كريمته التي تسمى (جهة دار الدملؤة) مدرسة في زبيد، ومسجدا في تعز، ومدرسة في ظفار الحبوضي أيضا”.

وتشير سجلات الأوقاف والحجج الوقفية والوصايا والروايات الشفهية فيما بين القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين/التاسع عشر والعشرين الميلادي إلى أنواع الوقف النسائي في ظفار، والجهات الموقوف عليها، والواقفين، واتضح أن الوقف بأنواعه وأشكاله حظي بالرعاية والاهتمام من قبل السيدات المحسنات، وغالب هذه الحجج والوصايا هي في الأصل مدونات وقصاصات حُفظت هنا وهناك، وليست مقيدة وموثقة في مؤسسات وجهات يُمكن الإحالة عليها.

وفي إحدى الوثائق ورد ما يلي:” أربعة مكاييل على عالية بنت عبدالعزيز بن عمر وبدرية بنت علي بن عمر المرهون، وبير فرح الناصفة القبلية نصف مكوك من زيادة بنت ... وقف جديد”، بينما تضمنت وصية المُحسِنة طفلة بنت حديد الكثيرية والمؤرخة سنة 1295هـ/1878م أوقافًا على عدد من مساجد صلالة، وقد عاشت هذه السيدة المُحسنة في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي في صلالة، وتركت بسيرتها العطرة وصدقاتها الجارية ما ينُم عن سريرتها الخيّرة وصلاحها.

الوقف النسائي ونماذج من السجلات الوقفية

وتطرقت وثيقة أخرى مؤرخة سنة 1313هـ/1896م إلى وقف الحرة الرشيدة زيادة بنت علي وفيها: " وقفت وتصدقت وحبست زيادة بنت علي … على المساجد المذكورة وقفا صريحا بقولها وقفت وحبست وتصدقت بثلاثة مكاكيك أجرة عين كل صرع بترية في بير فرح الناصفة الوجه من جملة اثنا عشر مكوك على مسجد الجامع نصف مكوك ومسجد بامزروع نصف مكوك ومسجد باعلوي نصف مكوك ومسجد النور نصف مكوك ومسجد عقيل نصف مكوك ومسجد باحمران وقفاً صريحاً صحيحاً وهي بكامل الصحة والعقل من غير إكراه ولا إجبار وبالله التوفيق”.

ويشير الباحث المشهور إلى أن الوقف الديني المرتبط بخدمة المساجد ورعايتها وكفاية القائمين عليها هو الوقف الأكثر انتشارًا في ظفار، لكن هناك أنواع أخرى من الوقف خدمت الجوانب الاجتماعية والعلمية تندرج تحت الوقف النسائي ومنها ما تطرقت له الوثيقة المؤرخة سنة 1338هـ/1920م وفيها ورد الآتي: " ليعلم الواقف على ذلك فقد وقفت الشريفة فاطمة بنت السيد عبد الله بن محمد باعمر المنزحة الداخلة عليها بالشراء من سالم بن فرج بن معتوق مقبرة للمسلمين المذكورة باطن المسطور نجدي مقبرة الشيخ بن عفيف وبالله الاعتماد”.

الوقف النسائي ونماذج من السجلات الوقفية

والسيدة فاطمة بنت عبدالله باعمر امرأة مُحسِنة زاولت التجارة مطلع القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، وعرفت بالحبوبة فاطمة، وتمتعت بمكانة اجتماعية وشهرة واسعة، وهذه المرأة المُحسنة سخّرت من أموالها الكثير والكثير للنهوض بالوقف وأعمال البر وتعليم القرآن، وعرفت بمساعدتها للمحتاجين وكفالة الأيتام، ووقفت أوقافًا عدة من ضمنها الزاوية، التي أوقفت لها حصصا من إنتاج عدد من مزارعها لخدمة هذه الزاوية، وفي عام 1338هـ/1920 اشترت بعض الأراضي الزراعية الواقعة إلى الشمال من مقبرة بن عفيف وأوقفتها كمقبرة للمسلمين، وبعد وفاتها بسنوات تحولت المساحة المحيطة بالزاوية إلى مقبرة.

وقد أوصت في الوثيقة المؤرخة سنة 1346هـ/1928 بعتق مواليها والتصدّق بما لديها من ذهب وخصصت جزءًا من مالها لعمارة المساجد حيث حددت الوصية التي خطّتها قبل وفاتها عددًا من الأوقاف وفيها: “أوقفت مكّوك على مسجد عقيل وأوقفت مكّوك في البير المذكورة على مسجد السقاف، وأوقفت مكّوك وربع في البير المذكورة على مسجد الشيخ علي بالحافة، وأوقفت مكوك في البير المذكورة على مسجد محسون بالحافة...”، وإضافةً إلى ما سبق اشتملت الوصية على وقف مقداره مكّوك وعدد من النخل لخدمة الزاوية التي أوقفتها قبل ذلك، وكانت وفاتها في 25 ربيع الأول 1353ه الموافق7 يوليو 1934 كما هو منقوش على شاهد القبر.

وخلاصة القول بأن الوقف النسائي في ظفار شهد تنوعًا وانتشارًا وحظي بالرعاية والاهتمام من القائمين على الوقف. كما تميز بالتعدد والتنوع ليشمل مجالات الحياة الدينية والاجتماعية والعلمية متماشيًا مع مقتضيات العصر الماضي، نظرًا لحال وواقع الحياة فيما مضى، كما أدّى قديمًا دورًا اجتماعيًا مهمًا إلى جانب الأوقاف الأخرى انعكس بصورة إيجابية على حياة المجتمع مُسهمًا في تحقيق الاستقرار، والشعور بالعدالة والمساواة بين الطبقات الاجتماعية، كما عزز مبادئ التضامن الاجتماعي، والتراحم والتكافل بين الناس من خلال التلاقي في المناسبات المختلفة، والتي توفرها المؤسسات الوقفية الدينية والاجتماعية.

والدكتور حسين بن علي المشهور حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس، وهو عضو في عدد من الجمعيات من بينها: الجمعية التاريخية العمانية، والجمعية التاريخية المصرية، والجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، وله العديد من الكتب والأوراق البحثية من بينها: كتاب تاريخ ظفار التجاري، وبحث بعنوان تاريخ ظفار البحري، والحياة الاقتصادية والاجتماعية في طاقة، والحياة العلمية في ظفار إبان القرنين الخامس والسادس الهجريين، والقيمة العلمية لمؤلفات أحمد بن ماجد، والمكانة العلمية والحضارية لمدينة صلالة، وتراث ظفار الفكري بين المخطوط والمطبوع والمفقود.

الدكتور حسين بن علي المشهور

المراجع

المشهور، حسين بن علي. الوقف النسائي في ظفار(قراءة في الوثائق والسجلات)، ورقة بحثية مقدمة في ندوة الوقف النسائي: آفاق التطوير والاستدامة، مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدارسات العربية والإنسانية، جامعة نزوى، 24 أكتوبر 2023.

Your Page Title