د. أحلام بنت حمود الجهورية
باحثة وكاتبة في التاريخ، عضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية العُمانية
يأتي شهر نوفمبر من كل عام عميقًا كعمق حضارتنا، مهيبًا كهيبة جبالنا السامقة، وبهجًا يُضاهي بهجة أيامنا الخالدة. فهو ليس مجرد مناسبة للاحتفال، بل هو فرصة متجددة لتعزيز الهوية الوطنية وتجديد الولاء للوطن والسلطان. في هذا الشهر، يحتفل العُمانيون بأعياد نوفمبر لأسباب عميقة؛ حيث يمثل 18 نوفمبر عيدًا وطنيًا عريقًا في عُمان، مستمد من ميلاد السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- الذي شكَّل بزوغ نهضة عُمانية حديثة أضاءت الطريق نحو المجد وأعادت للبلاد مكانتها التاريخية الرفيعة.
وفي العشرين من نوفمبر، يُذكّرنا التاريخ بامتدادنا الحضاري الطويل؛ إذ أن عُمان، بتاريخها الضارب في القدم، تجاوزت حقبًا متعددة شهدت فيها نهضة فكرية وثقافية ودينية تركت آثاراً عميقة على الإنسان والمجتمع، وأسهمت في التنمية المجتمعية وعززت التفاعل مع الحضارات الأخرى. ويمثل التاريخ العُماني إرثًا أوسع من مجرد دول أو شخصيات أو أحداث، إذ يضم نضجًا سياسيًا وتنوعًا اقتصاديًا وغنى ثقافيًا يعكس شخصية الإنسان العُماني وتفاعله مع الشعوب الأخرى وتأثيره الحضاري الواسع.
تذكر المصادر التاريخية أن حضارة عُمان تعود لأكثر من 3000 سنة، بينما تاريخها الجيولوجي يمتد لأكثر من 800 مليون سنة. وقد قدمت عُمان إسهامات بارزة للإنسانية عبر العصور المختلفة، بدءًا من العصور الإسلامية، حيث ساهم أبناؤها من قادة وعلماء في الحضارة الإسلامية، وكان لهم بصمات واضحة في نشر العلوم وبناء الحضارات الإسلامية المتعاقبة. كما استطاعت عُمان صياغة نموذجها الفريد في الحكم الإسلامي، وهو ما شكَّل خصوصية ثقافية متفردة، وبرزت أسر حاكمة على مر العصور كان لها دور في طرد المستعمر وحفظ السيادة الوطنية، وصولًا إلى تأسيس الدولة البوسعيدية عام 1744م بقيادة الإمام أحمد بن سعيد، الذي يُعد رمزًا للوحدة والاستقرار ومثالًا للقيادة الحكيمة التي وحَّدت عُمان وحققت الرخاء والازدهار.
وبعيدًا عن الجدل التاريخي حول دقة التواريخ وبدايات ونهايات الدول، فإن القيمة الحضارية للإنسان العُماني تتجاوز الأرقام والتواريخ، فهو رمزٌ عريق يمتد أثره عبر الزمن. ويمكن استثمار أعياد نوفمبر لتعزيز الهوية الوطنية وإبراز أهمية التاريخ العُماني العريق، بما يُظهر أن للأمم أعمارًا توثقها الدول، وللشخوص أفعالًا تخلدها الذكريات.
في هذا الشهر، وتجديدًا لعهد النهضة المتجددة بقيادة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، يحتفي العُمانيون بإنجازات عدة تحققت في السنوات الخمس الماضية في ظل رؤية عُمان 2040 التي وضعت خارطة طريق طموحة نحو مستقبل مشرق، تشمل تطلعات المجتمع وتستند إلى شراكة واعية بين المواطن والحكومة. وقد أكد جلالته -أعزه الله- أن الجميع شركاء في مسيرة التنمية الشاملة، وشدد على دور الحكومة في خدمة الوطن والمواطن، مشيراً إلى ضرورة تمكين المواطن العُماني في مختلف المجالات.
وفي وثيقة رؤية عُمان 2040، قال جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-: “إن جميع الذين حظوا بشرف المسؤولية لإعداد الرؤية المستقبلية عُمان 2040، ماضون وأيديهم بأيدي الجميع للعمل على ترجمة توجهاتها وأهدافها، وصولاً لمستقبل يقوده الطموح ويشارك فيه الجميع.” هذه الكلمات تشدد على ضرورة التعاون لتحقيق أهداف الرؤية واستثمار كافة الإمكانات لبلوغ تطلعات الوطن، مع العمل بجد لمواكبة التغيرات العالمية.
وفي هذا السياق، يأتي التعليم على رأس الأولويات في رؤية عُمان 2040 بوصفه إحدى الدعائم الأساسية للتنمية. ويمثل التعليم المتطور ضرورة ملحّة لتحقيق التقدم، حيث يتم العمل على بناء مناهج تعليمية تواكب احتياجات سوق العمل وتُمكّن الطلبة من المهارات المستقبلية، مما يعزز من قدراتهم ويؤهلهم ليكونوا فاعلين في مختلف المجالات، ويضمن التنوع في المسارات التعليمية بما يتماشى مع اهتماماتهم وميولهم.
وإذ نمضي قدمًا في مسيرة تحقيق رؤية عُمان 2040، فإن على كل فرد في هذا الوطن العظيم أن يدرك دوره ويؤدي واجباته الوطنية، ليسهم بفاعلية في بناء مستقبل يشرق بنور العلم والمعرفة، ويحقق طموحات الأجيال القادمة. إن الحضارة العمانية على مر العصور استندت إلى العلم كوسيلة للتقدم، وسنظل نوجه بوصلتنا نحو المجد مستلهمين هذا الطريق الراسخ.
كل عام وعُمان، سلطانًا وشعبًا، بخير وازدهار ورخاء.