د. أحلام بنت حمود الجهورية
باحثة وكاتبة في التاريخ، عضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية العُمانية
وثّق حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- التاريخ الممتد للعلاقات العُمانية التركية في الكلمة السامية التي جاءت في مقدمة كتاب حمل عنوان: ”عُمان في الوثائق العثمانية ثلاثمائة وسبعون عامًا من العلاقات التاريخية“ صدر في عام 2023م عن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بسلطنة عُمان، ونقتبس بعضاً مما جاء في كلمة جلالته -أعزه الله-: ”لقد مهد تنامي القوتين العُمانية والعثمانية في العالم الإسلامي إلى تعزيز التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي بينهما، ذلك التعاون الذي شهد أوجه خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، حيث تكشف الوثائق والتقارير الرسمية حجم المراسلات المتبادلة بين سلاطين عُمان وسلاطين الدولة العثمانية، إذ عملوا على إيجاد استقرار المنطقة وتأمين الملاحة الدولية الممتدة من عُمان إلى شرق إفريقيا وسواحل المحيط الهندي؛ مما ساعد على زيادة النشاط التجاري والسياسي. ولقد ارتبط سلاطين عُمان بعلاقات جيدة وحظوا بمودة خاصة لدى سلاطين الدولة العثمانية تجلت في حفاوة الاستقبال والتقدير الذي نالوه أثناء زياراتهم إلى إسطنبول، وفي المقابل حظيت وفود الدولة العثمانية بالاهتمام والترحيب الكبيرين أثناء زياراتها لمسقط أو زنجبار“.
ونسلّط الضوء في هذه الكلمة السامية لجلالته –حفظه الله- في الإضاءة على بعض الوثائق الواردة في ذلك الإصدار القيّم، حيث تكشف تفاصيل بعض الحوادث التاريخية المؤكدة لعلاقات التعاون والاحترام بين الدولتين العُمانية والعثمانية؛ ففي عهد مؤسس الدولة البوسعيدية الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (1744-1783م) تميّزت العلاقات العُمانية العثمانية بالقوة والمتانة والتعاون، ومما يؤكد ذلك طلب الوالي العثماني في بغداد المساعدة العسكرية من الإمام أحمد بن سعيد لفك الحصار الفارسي عن البصرة سنة 1775م، واستجابة الإمام أحمد لذلك الطلب، فأرسل أسطولا مكونًا من أكثر من ثلاثين سفينة ومركبًا، تقوده السفينة الرحماني وعلى متنها قائد الأسطول العُماني السيد هلال ابن الإمام أحمد، الذي تمكّن من فك الحصار الفارسي عن البصرة ومساعدة العثمانيين في استعادة السيادة الكاملة عليها. ونتيجة لذلك الدور الكبير الذي قام به الأسطول العُماني أرسل السلطان العثماني عبد الحميد الأول (1774-1789م) رسالة شكر للإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، وخصّصَ مكافأة مالية سنوية للعُمانيين.
إن القراءة المتفحصة لمضمون بعض الوثائق العثمانية تؤكد أن الإمام أحمد بن سعيد أرسل أكثر من حملة عسكرية لمساعدة البصرة في فك حصارها من قبل الفرس في سنوات متفرقة من أعوام 1775م، و1776م، و1777م، فقد ورد في وثيقة عنوانها: ”طلب حول إرسال مرسوم إلى إمام مسقط معرباً عن الامتنان بشأن إرساله سفناً مع ابنه لمساعدة البصرة“ ما نصّه: ”هناك مراسلات مستمرة منذ القدم بين الإمام والولاة، حيث كانت علاقات ودية وإخلاص بينهم، وحتى أن الرسوم الجمركية لم تحصّل من تجارهم الذين يأتون إلى ميناء البصرة، لجبر خواطر الولاة. لكن ونظراً لوجود صراع بينهم وبين الفرس كتب الراحل عمر باشا رسالة إلى الإمام وطلب فيها المساعدة بسبب محاولة الفرس الاعتداء على ميناء البصرة العام الماضي. وبناءً على هذا الطلب أرسل الإمام ابنه إلى البصرة مع ثلاثين أو أربعين سفينة مختلفة الأحجام“.
وفي ذات السياق، تشير وثيقة عثمانية أخرى مؤرخة في ٧ يوليو ١٧٧٧م بأن السلطان العثماني عبد الحميد الأول قدَّم اعتذاره عن التصرف غير اللائق لمصطفى باشا -والي البصرة السابق- الذي أعاد المساعدات التي قدّمها الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي للدولة العثمانية، وردَّ الإمام أحمد بن سعيد برسالة للسلطان العثماني أبدى فيها استعداده الدائم لتقديم المساعدة الممكنة للدولة العثمانية، وحرصه على استمرار الصداقة بينهم. ومما ورد أيضاً في رد الإمام ذكره بأنه استلم رسالة السلطان ببهجة وفرح على الرغم من وجود مسافات طويلة بين البلدين، وأعرب عن استعداده للتعاون مع الدولة العثمانية، وأشار بأنه ارتدى القفطان الذي أرسله له السلطان عبد الحميد الأول. ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن السلطان العثماني قام بإعدام مصطفى باشا بسبب ذلك التصرف.
ومما يوضح عمق العلاقة ومتانتها بين السلطان العثماني عبد الحميد الأول والإمام أحمد بن سعيد استمرار المراسلات بين الطرفين، وتبادل الهدايا، ومنح بعض الامتيازات للتجار العُمانيين، وحماية الحجاج العُمانيين. وهو ما تكشفه مكاتبة مُرسلة من السلطان العثماني للإمام أحمد تتضمن إخباره بكل ما يحدث في البصرة في تلك الفترة، كما أن السلطان العثماني عندما أراد عقد صلح مع الفرس كان حريصاً على إبلاغ الإمام أحمد بذلك، وكان رد الإمام مفاده أن الصلح خير للجميع، ولا يوجد خلاف عليه، وإذا رأى السلطان بأن ذلك في صالح المسلمين فنحن معه.
لقد حافظت العلاقة العُمانية العثمانية على حيويتها بعد وفاة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي في عام 1783م، واستمرت العلاقات الطيبة بين الدولتين في عهد السيد سلطان ابن الإمام أحمد (1792-1804م)؛ إذ كانت هنالك زيارات متواصلة للسيد سلطان لميناء البصرة للإشراف على تجارة عُمان الضخمة مع ميناء البصرة. وفي عهد السلطان سعيد بن سلطان أبدت عُمان تعاونها مع محمد علي باشا الذي نظم حفل استقبال رسمي كبير في مكة للسلطان سعيد أثناء ذهابه لأداء مناسك الحج عام 1824م. وتم تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين نتيجة للنشاط التجاري المهم والمؤثر للسلطان سعيد في كل من عُمان وشرق أفريقيا. وبعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان في عام 1856م استمرت الدولة العثمانية في الحفاظ على علاقاتها التجارية والدبلوماسية في عهد كل من سلطان عُمان ثويني بن سعيد، وسلطان زنجبار ماجد بن سعيد.
إضافة إلى ذلك، هنالك روابط عائلية بين عُمان والأتراك نشأت في عهد السلطان تيمور بن فيصل (1913-1932م)؛ فقد تزوج امرأة تركية وهي السيدة كاملة أكرالي وأنجب منها ابنه صاحب السمو السيد طارق -رحمه الله-. ويوثّق أرشيف مدرسة نيشانتاشي الأناضول الثانوية، وبالتحديد سجل المدرسة الثانوية الإنجليزية للبنين تاريخ ميلاد سموه الذي كان في 2 يوليو 1922م، وأنه التحق بالمدرسة في 21 سبتمبر 1929م، وغادرها في شهر يونيو من عام 1932م. ومن هنا، يمكن القول بأن سمو السيد طارق بن تيمور تلقى تعليمه الأولي في إسطنبول بين عامي 1929 و1932م ثم غادرها متوجهاً إلى ألمانيا.
ومع تولي جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الحكم في 23 يوليو 1970م امتدت جسور التواصل وزادت متانة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأخذت مسارها في النمو والتطور؛ ففي 8 أغسطس 1984م صدر قرار تركي بافتتاح قنصلية فخرية عامة لتركيا، ثم بعد شهرين فقط صدر قرار من مجلس الوزراء التركي برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي وافتتاح سفارة في مسقط؛ وباشر أول سفير تركي مهامه في 10 ديسمبر 1985م، ثم تعيين أول سفير عُماني في أنقرة في عام 1986م. وصاحب هذا النشاط الدبلوماسي علاقات سياسية واقتصادية متنامية تُوجت بزيارات رسمية لكبار المسؤولين الأتراك إلى سلطنة عُمان، أهمها زيارة الرئيس التركي سليمان دميرل في عام 1997م، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في عام 2005م، والرئيس التركي عبدالله غول في عام 2010 م. ويأتي الإعلان عن الزيارة السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- إلى الجمهورية التركية؛ لتضيف بعداً آخر للعلاقات بين البلدينالصديقين، منطلقة من وشائج الماضي ومتطلعة لفتح آفاق أرحب؛ من أجل ترسيخ العلاقات التاريخية المتينة والممتدة، وتعزيز سبل التعاون التجاري، وتعظيم الفرص الاستثمارية، وتحقيق الشراكة في شتى المجالات والثقافية والاقتصادية.