محمد حسن- كاتب سوري
منذ خمس سنوات كتب الرائي في داخلي ما نصه: تراجيديا الحياة التي نعيشها، أنّ الأرض التي نتوهم أننا نقف عليها تتغير وتتبدل باستمرار، ليس فقط بمعنى التنمية والتطور وإنما بمعنى الخراب والانقراض أيضًا.
كيف إذًا لذلك الإنسان الذي يقف عليها ألا يتغير ويتبدل، ليس بمعنى أن يتلون كالحرباء، وإنما في بحثه عن نقطة ارتكاز، يردد ما قاله أرخميدس في خيالنا الأكثر حميمية عنه، عاريا في حوض استحمامه، يتأمل: " أعطني نقطة ارتكاز وسأرفع لك العالم “.
يبقى لإنسان اليوم المسكين أن يميز بين الثابت والثبات بين العودة والاستعادة لفظاً وكتابة.
اليوم بعدما شهدنا ما شهدنا من فوضى حواسنا وجوارحنا وتقطع أوصالنا بتقطيع أرضنا وهويتنا، وعدم اليقين ما الذي سيتبقى بعد هذا التشظي في المفاهيم والقيم الذي رافق انفجار تلك الألغام في وجهنا كلما أعلنت ضمائرنا على الملأ وحدة أرضنا وشعبنا وتاريخنا، أتأمل بكثير من الانتباه والحيرة مشهد تلك السنديانات المهيبة في بلدي، كيف تسير بعدما اقتُلعت من تربتها، كان الواحد منا يموت ببطء وهو وارف الظل والبصيرة لكنه لا يقوى على الاتصال بجذوره وقد استُئصلت وأصبحنا فلول حضارة عمرها أكثر من عشرة آلاف عام، نشعر بأننا مطاردون في دواخلنا، ننظر بعين الحذر والريبة للهواء من حولنا، حتى إذا مُدت لنا تربةُ أرض وحضارة، أختٌ لحضارتنا في الغنى والعمق والمكانة، زرعنا أنفسنا بها وعادت رئة تلك الأرض المباركة تمنحنا الشعور بالسكينة والأمان، اخضرّت فروعنا وتشابكت أيادينا سورًا يزود عن أرضٍ منحتنا خيرها وعطاياها.
تسارعت الأحداث في المنطقة، لكأننا داخل فيلم لا تنتهي فصوله ولا يمكن استيعاب أحداثه إلا بإعادة شريطها مراراً وتكراراً، ومع ذلك تبقى عسيرة الهضم على أقوى العقول، ربما لأن كلمة السر فيها الذكاء الاصطناعي، حينما تفوق بأشواط على (الذكاء العربي) دون امتلاك التقليد العربي لكلمته أولاً، حتى يقترب من تلك الصناعات التقنية وبطبيعة الحال مفاتيحها وكلمة سرها، وهذا ما يحملنا وجوب البدء بمراجعة نقدية صارمة لمبادئنا النظرية والتطبيقية على هشاشتها وحتمية خروجنا من مناظير بالية ومتاهات دهليزية نعمى من خلالها عن رؤية بعضنا البعض ونتربص ببعضنا الدوائر، على هدى نظرية هوبز " الجميع ذئاب الجميع " وهو ما يفسر بغير طول شرح خروجنا من السَبق نتيجة تطور إنساني-صناعي لم نواكبه بعقل عربي قادر أن يحطم أوثانه، صحيح أن التاريخ مليء بعبر انتصر فيها الدم على السيف وصحيح أن هوشي منه الفيتنامي هزم بأحذية القش أعتى قوة في التاريخ، وهذا ما يزال ممكناً ومشرعاً في كل وقت مع أهمية إدراك أننا انتقلنا إلى سياق زمني وتاريخي مختلف ولدته المتغيرات التقنية وهو ما يفاقم كلفة التحدي ويسير بنا على حد السيف، لطالما كان للعامل الفيزيائي الوجودي دور كبير وحاسم في إيقاع وإعلاء أفكار وثورات وحروب على أهمية العقيدة والإرادة، فمن مفارقات الأحداث أن النقص في الوقود أسقط رومل بكل عبقريته العسكرية، أمام الإنجليزي مونتغمري في صحراء العلمين.
وكذلك أجاب نابليون عن استفسار جندي بادره بالسؤال هل الله معنا نحن الكاثوليك أم مع الإنجليز البروتستانت، فرد عليه نابليون أن الله في المعركة هو حليف أصحاب المدافع الكبيرة، هذا ما يستدعي أن نتحلى ليس فقط بالأفكار الكبيرة وإنما بالمدافع الكبيرة ليس فقط بامتلاكها امتلاكاً سلبياً وإنما المشاركة في عملية تصنيعها علمياً ومعرفياً وتطوير كل التقنيات المرتبطة بمسارنا الزمني والمكاني فما يزال مسار التاريخ مفتوحاً على كل الاحتمالات لن يُقفل حتى بدمغة الذكاء الاصطناعي.
كان واضحاً أنّ الإطار العريض لكل ما يجري هو إطلاق الفوضى، وإبقاؤها تحت السيطرة ما أمكن، عندما تصل إلى الخيارات الحاسمة، فقد فرغت اليد الأمريكية من القدرة على التدخل العسكري، ولم تعد الحروب طريقاً صالحاً لصناعة السياسة، وفقاً لنقطة التلاقي بين أطروحة كل من برنارد لويس بتدمير خطوط الحدود الجغرافية بين الدول لتكف عن أن تكون دولاً عربية وإسلامية، وتصير كائنات طائفية وإثنية، فيتم الفصل بين الكيانات وفقاً لخطوط الديمغرافيا الطائفية والعرقية للسكان.
وبين أطروحة برنار ليفي القائمة على امتصاص طاقة الغضب واللااستقرار والتوتر، بحروب أهلية بين المكونات التي يجب تشجيعها على التقاتل وفقاً لهوياتها الدينية، والخلفية الفلسفية الحاضرة، تولى صياغتها فوكوياما بنظريته عن نهاية التاريخ، استناداً إلى سيطرة التقنية على مسار الإنسانية وسقوط العقائد والهويات كأساس لكتابة التاريخ، فقد جاء زمن الرفاه والاستهلاك والتقنية. اختصر توماس فريدمان تلك المواجهة بثنائية سيارة اللكزس مع شجرة الزيتون، وتنبأ بانتصار تاريخي لسيارة اللكزس كرمز للرفاه في مقابل شجرة الزيتون كرمز للتمسك بالهوية والخصوصية الثقافية.
كتب الماغوط يومًا بأن كل طبخة سياسية في المنطقة، أمريكا تعدها، وروسيا توقد تحتها، وأوروبا تبردها، وإسرائيل تأكلها، والعرب يغسلون الصحون. لكن هذه المرة، مليئة بالدماء العربية تلك الصحون ولا يمكن غسلها، فالعربي الجيد بالنسبة لأعدائنا هو العربي الميت، فما يزال الشريط في بدايته كما صرّح وزير الشؤون الإستراتيجية وعقل المجنون نتنياهو أن عملية التغيير في الشرق الأوسط ما تزال في بداياتها، تتناهبها في هذا الفصل الطرابيش العثمانية بالإنكشارية الجديدة شمالاً، والقلنسوة اليهودية (الكيباه) بممر داوود جنوباً.
نحن نولد ونكبر داخل هذا الحزن، وإننا وجِدنا كي نوجد ومن يقتلنا كأنما يقتل الوجود بأكمله، لطالما تحملنا في لاوعينا خطيئة طردنا من الجنة السماوية حتى نعود ونحمل في وعينا هذه المرة خطيئة طردنا من جنتنا الأرضية، سورية. لا أوراق في أيدينا ولا رأس نتكئ عليه كما يبشر أنبياء هذا العصر إلا الرأس الأمريكي فهو إذًا رأس الجحيم، كما صرخ محمود درويش أرى في عيونهم ذئاب جهنم، لكنها فلسطين...لكنها فلسطين الشعر الأشيب في رؤوسنا، لكنها سورية...لكنها سورية التي يتألم التاريخ بقدر ما تتألم، قدرٌ سيتحقق، أن يكون كل السوريين سورية، شجر الزيتون وغراسنا التي حفرناها بأصابع أرواحنا هي صلاتنا تجاه هذه الأرض وصرختها في وجه آلة القتل ووحوشها النهمة لدمائنا، فمهما كانت السيوف طويلة لن تكون بطول الزمن. فلقد رأينا وقرأنا عن الكثير من الأقدام المغلولة الحافية تحت لهيب الصحراء وهي تدوس ظلال المنتصرين.