القاهرة-أثير
زاره وتجول في مرافقه: د. محمد بن حمد العريمي
اعتدت في كل زيارة لي إلى القاهرة – وما أكثرها- أن أتجوّل في شوارع وأزقة وحواري القاهرة القديمة بمسمياتها الفاطمية، والمملوكية، والعثمانية، والأوروبية، واعتدت كذلك أن أقف أمام معالمها الأثيرة متأمّلًا عظمة تلك المباني، وبراعة القائمين عليها، ساعيًا في كل زيارة إلى ولوج بعضها للوقوف على مكامن سحرها وإبداعها.
وفي زيارتي الأخيرة إلى المحروسة قمت بزيارة عددٍ من المؤسسات والمعالم التي حرصت على عامل التنويع الفكري والزمني بها، فمن شارع المعز لدين الله، إلى باب الوزير، وحواري باب النصر، وزوايا شارع القلعة (محمد علي)، وفي تلك الأماكن زرت عددًا من المساجد، وتتبعت بعضًا من المطابع القديمة، وولجت مجموعة من المراكز الثقافية، من بينها متحف الأديب العالمي الكبير نجيب محفوظ الذي يقع في تكيّة تابعة لمجموعة السلطان الذي كان في بداية أمره مملوكًا لشخصٍ لا يختلف عنه كثيرًا، وأقصد به محمد بيك أبو الذهب صبي علي بيك الكبير، وهي التكية التي تقع في مكانٍ لا يبعد كثيرًا عن المشهد الحسيني، وغير بعيدٍ كذلك عن الجامع الأزهر، وشارع المعز، ودرب الأتراك حيث المكتبات العتيقة. كانت “أثير” هناك، وكان هذا التقرير.
الموقع
يحتل المتحف مبنى تكية “محمد بك أبو الدهب”؛ ذلك المبنى الأثري المكون من طابقين ويعود تاريخه إلى عام 1188هـ الموافق 1774م، تقع التكية ضمن مجموعة محمد بك أبو الذهب بأرض الزراكشة بمنطقة الأزهر، وتضم بالإضافة إلى التكيّة، مسجدًا لتدريس العلوم الشرعية، وملحق بها سبيل وحوض لشرب الدواب.
والتِّكيّة، كلمة تركية تعني الاتكاء أو الاستناد إلى شيء للراحة والاسترخاء، فهي مكان الراحة والاعتكاف، وهي تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بنفس وظيفة الخانقاه أو الزاوية التي كانت منتشرة في العهد المملوكي في مصر، أي إنها كانت مخصصة لإقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة، وتقديم المساعدة والطعام للفقراء وعابري السبيل، إضافة إلى تطبيب المرضى وعلاجهم وهو الدور الذي كانت تقوم به البيمارستانات في العصر الأيوبي والمملوكي.
وقد خُصِّص المبنى من جانب وزارة الثقافة المصرية لاحتضان المتحف منذ منتصف عام 2019م، وتم اختياره تحديدًا؛ نظرًا لقربه من المنزل الذي وُلد فيه محفوظ بحي الجمالية في القاهرة، ولكونه يتوسط منطقة القاهرة التاريخية التي استوحى منها الأديب الراحل شخصيات وأماكن أغلب رواياته.
يتكون المتحف من طابقين على مساحة 1600 متر، الأول يضم مجموعة قاعات تخص المكتبة التي تضم أعمال محفوظ باللغة العربية واللغات التي تُرجمت لها، وكذلك الأبحاث والدراسات التي تناولت أدبه، إلى جانب قاعة لإقامة الندوات.
ويضم الطابق الثاني قاعات عدة منها ما يضم الأوسمة والشهادات التي نالها الأديب الراحل، ومنها ما يحوي متعلقاته الشخصية، علاوة على عشرات المخطوطات التي كتبها بخط يده.
وسميت قاعات المتحف بأسماء تدلل على مسيرة محفوظ، مثال الحارة، وأصداء السيرة، وتجليات، وأحلام الرحيل، ونوبل، وعُلقت على المساحات الفارغة من الجدران بالطابقين لوحات تحمل مقولات للأديب الراحل، التي قالها ضمن نصوصه الأدبية أو خلال اللقاءات الإعلامية.
قاعتا الأوسمة والنياشين
تضم الشهادات والأوسمة والنياشين التي حصدها محفوظ خلال مسيرته، ومنها: جائزة قوت القلوب الدمرداشية عن “رادوبيس” عام 1942، وجائزة وزارة المعارف عن “كفاح طيبة” عام 1944 ، وجائزة الدولة في الآداب عن “بين القصرين” عام 1957، وجائزة مجمع اللغة العربية عن “خان الخليلي” عام 1946، وشهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة بتاريخ 26 أكتوبر 1988، وقلادة النيل، ضمن دولاب مخصص للأوسمة منها وسام الاستحقاق من مصر، ووسام العلوم والفنون، وعملات تذكارية فئات 1 جنيه و5 جنيهات بمناسبة حصوله على جائزة نوبل في الأدب، ووسام الفنون والآداب من فرنسا، ووسام الآداب والفنون من أمريكا اللاتينية، وشهادة جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى في 1969، وشهادة العضوية الفخرية في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وإهداء من هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي في 1998، وجائزة الكتاب من إيطاليا في 1994، وغيرها.
قاعة الحارة
كانت نشأة نجيب محفوظ بحي الجمالية قد جعلته ينغمس في عالم الحارة ويستلهم منها مؤلفاته مثل زقاق المدق، وبين القصرين، والسكرية، وقصر الشوق، وغيرها، فكانت قاعة “الحارة”، التي تعرض علاقة نجيب محفوظ بالحارة المصرية، وكيف ألهمته جلّ أعماله، عبر ما تقدمه القاعة من مادة فيلمية عن الحارة وعلاقة محفوظ بها.
قاعة أصداء السيرة
تضم قاعة “أصداء السيرة” بعض المتعلقات الشخصية، وعدة الحلاقة، والفرشاة والمشط، وزجاجات عطر، وماكينة الحلاقة وملحقاتها، ونظارة طبية، وساعة سويسرية، ولبيسة حذاء معدنية، وغليون خشبي وعلبة سجائر، ومبسم سجائر، وبدلة كحلية وحذاء أسود، وعصاة وقبعة، وعدسة مكبرة، وبطاقة عضوية الاتحاد الاشتراكي، وبطاقة عضوية فخرية بنادي القضاة وغيرها.
قاعة تجلّيات
يتجلّى نجيب محفوظ بمكتبه وكرسيه وخلفهما لقطات له، ويحيط بكل ذلك العديد من الكتب، وتتناول هذه القاعة سلسلة من النقاشات التي قدمها محفوظ مع الكاتب الراحل جمال الغيطاني في الحلقات التلفزيونية “تجليات مصرية”، وهو ما سيراه الزوار من خلال المواد الفيلمية المعروضة من حوار محفوظ والغيطاني.
قاعة السينما
بدأ محفوظ رحلته في عالم السينما عام 1947 حينما اشترك مع المخرج صلاح أبو سيف في كتابة سيناريو فيلم المنتقم، أعقبها بعدد آخر من الأفلام. كما شارك في كتابة عدد من سيناريوهات أفلام المخرج يوسف شاهين، وتوالت الأفلام عن رواياته حتى وصلت 21 فيلما، وثمانية مسلسلات.
في قاعة السينما تُعرض مقتطفات من أهم أفلام نجيب محفوظ التي ما تزال عالقة في ذهن المشاهد، وهنا نجد مكتب نجيب محفوظ الشخصي، وخلفه شاشة كبيرة تعرض مشاهد من بعض رواياته التي تحولت إلى أفلام سينمائية، وتهدف القاعة إلى التعرف على علاقته بالسينما، والتعرف على محتويات مكتبة محفوظ الشخصية، وأهم الكتب التي أهدتها أسرته إلى المتحف.
قاعة نوبل
تمنح جائزة نوبل في الآداب منذ عام 1901م، وقد حصل محفوظ على الجائزة في الآداب عام 1988 كأول مصري وعربي ينالها.
وفي صدر القاعة تعرض شهادة الجائزة، بينما تعرض على الجدران تاريخ الجائزة وحيثيات فوزه بها، بالإضافة إلى كلمته التي ألقيت في حفل تسلمها، وصور لكل الفائزين بها منذ تدشينها وحتى اليوم.
قاعة حلم الرحيل
تعرض محفوظ في عام 1994 إلى محاولة اغتيال من إرهابيين طعناه في عنقه وتجاوز تلك التجربة المرعبة ليكمل مشواره الأدبي لأكثر من عقد، بالرغم من تأثر أعصاب يده وعدم قدرته على مواصلة الكتابة لأكثر من دقائق معدودة، لكنه قاوم واستمر.
وفي 30 أغسطس 2004م ودّعت مصر أديب نوبل عن عمر الرابعة والتسعين وخرجت جنازتان له: الأولى شعبية أوصى أن تخرج من ميدان الحسين، ومن المنطقة التي استلهم منها رواياته وشخوصه وأحداثه. أما الجنازة الثانية فكانت رسمية وخرجت من مسجد آل رشدان بمدينة نصر.
في قاعة (حلم الرحيل) يطالعنا محفوظ بمقولاته عن الحياة والموت ومحاولات اغتياله، ولحظات مرضه واحتضاره، والمحاولة الغادرة لاغتياله وما ترتب عليها من مشكلات صحية أثرت في قدرته على الكتابة، وحتى وفاته. كما تعرض بعض المقتنيات الخاصة بمحفوظ، كجهاز السمع والعدسة المكبرة وبعض الكراسات التي كان يتدرب فيها على الكتابة بعد إصابة يديه عقب محاولة الاغتيال.
قاعة رثاء
تضم هذه القاعة تمثالاً نصفياً لمحفوظ أمام جدار يحمل جُملاً مختارة من أقواله عن الحياة والموت، وقلادة النيل التي حصل عليها الأديب الراحل.
قاعات ومكتبات
يضم المتحف عددًا من المكتبات: مكتبة عامة تضم (165) كتابا، ومكتبة النقد الأدبي وتضم (119) كتابا، والمكتبة الشخصية للأديب نجيب محفوظ وتضم (1091) كتابا، ومؤلفات نجيب محفوظ وعددها (169) كتابا، بالإضافة لمكتبة رقمية تحوي مؤلفات أديب نوبل وعددا من المؤلفات التي تتحدث عنه.
وملحق بالمتحف قاعتان مخصصتان لإقامة ورش كتابة الرواية والسيناريو والقصة القصيرة وكافة الأنشطة الخاصة بالرواية مثل حفلات التوقيع والندوات.
المراجع
- زيدان، إلهام. “الوطن” في متحف نجيب محفوظ.. 110 سنوات على ميلاد صاحب نوبل، موقع جريدة الوطن المصرية الإلكتروني، السبت 11 ديسمبر 2021.
- غنيم، محمد. متحف «نجيب محفوظ» والتقاء التاريخ بالأديب، موقع جريدة الجزيرة الإلكتروني، الاثنين 16 يناير 2023.
- الصور بعدسة معدّ التقرير.
