أثير- د. عبدالعزيز بن سعيد الغريبي
في حقيقة الأمر، بدأت هذا المقال بمنشور من بضعة أسطر على منصة “إكس”، لكن تزاحم الأفكار دفعني إلى التوسع فيه ليصبح مقالًا يلقي الضوء على مسألة جوهرية تتعلق بالفجوة بين المنظومات الوطنية والواقع المعاش. فبصفتي متابعًا لبعض آليات البحث والتحليل التي انتهجتها بعض المنظومات والقرارات الوطنية، وعطفاً على صوت المواطن وأثرها عليه، وجدت أن هذه الفجوة تمثل تحديًا حقيقيًا يستوجب المعالجة.
نعلم أن هذه المنظومات الوطنية والفرق واللجان المشكلة بقراراتها ومشاريعها وقوانينها قائمة على دراسات مستفيضة لفرضيات بمنهج بحثي واستقصاء وحلقات نقاشية واستبانات تبدو لنا رائعةً ونشيد بها؛ إلا أن إحدى أعظم الإشكاليات التي تشكل الفجوة بين المنظومات والواقع هو استخدام هذه الأدوات التحليلية وتصميمها بأسلوب يعزز “التحيز التأكيدي”(Confirmation Bias)، حيث تُبنى الأسئلة وطريقة القياس بشكل يجعل البيانات/ الإجابات تنحصر ضمن نطاق معين يخدم فرضيات مسبقة، بدلًا من استكشاف وجهات نظر حقيقية، ومتنوعة. والنتيجة؟ قرارات مبنية على بيانات منحازة للنزعة البيروقراطية التي لا تعكس الواقع الفعلي.
وبالتالي تنفذ هذه القرارات دون فترات تجريبية بتركيز وتبرير مفرط على نتائج الدراسات، ويسمى ذلك با“الصرامة التحليلية “(Analytical Rigidity)، والتي تعني الجمود الفكري الناتج عن التركيز المفرط على التحليل المنطقي والبيانات المجردة، دون الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية، الثقافية، والإنسانية. وتحدث هذه الظاهرة عندما تصبح القواعد والنماذج التحليلية أكثر أهمية من فهم الواقع الفعلي، مما يؤدي إلى استنتاجات قد تكون صحيحة نظريًا لكنها غير مناسبة للتطبيق عمليًا.
لقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - أن المواطن هو الهدف والوسيلة في عملية التنمية، كما جاء في خطابه السامي الأول: “إن الاهتمام بالمواطن العُماني ورعايته سيظل على رأس أولوياتنا، وسنبذل كل ما نستطيع في سبيل توفير الحياة الكريمة له، وإتاحة الفرص أمامه للمساهمة في بناء هذا الوطن وإعلاء شأنه، مسترشدين في ذلك بالمبادئ التي أرساها جلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه.” وهذا التوجه ينعكس بوضوح في رؤية عُمان 2040، التي تضع “الإنسان والمجتمع” في صدارة أولوياتها، باعتبار أن محاور الرؤية الأخرى: الاقتصاد والتنمية، الحوكمة والأداء المؤسسي، والبيئة المستدامة هي تكاملية مع المحور الأول، ولكن لا يصلح أن تسبقه، فهو عمودها الفقري.

ولم تلبث الحكومة أن قامت بالكثير من الجهد والعمل نحو تنفيذ الرؤية وحققت العديد من الإنجازات وتجاوزت مراحل حرجة وتقدمت في مواضع مختلفة في ضوء القيادة الرشيدة لمولانا هيثم بن طارق المعظم حفظه الله.
ومن هذا المنطلق وامتثالاً لدوري الوطني سأتطرق إلى بعض المواضيع التي قد تبدو إيجابية من منظور العديد من المسؤولين والإعلام الرسمي، ولكنها على العكس من منظور كثير من المواطنين وممثليهم في مجلس الشورى، فهي لهم شائكة ومؤرقة وتسبب لهم آثاراً سلبية تتناقض مع توجه الرؤية والقيادة الرشيدة. حيث تشغل قضايا مثل التوظيف، التقاعد، نظام إجادة، والتعليم وريادة الأعمال اهتمام الشارع العماني، ويتم تداولها بشكل واسع في المجالس، ووسائل التواصل الاجتماعي، وأوساط العمل. بينما يتم تجاهلها بحجة أن خطاب هؤلاء المنتقدين عاطفي وسطحي لا يقدر ولا يفهم الجهود المبذولة أو الصورة الكبرى لهذه الأنظمة والقوانين؛ وعلاوة على ذلك نجد هناك توجه لدى بعض المسؤولين -المصابين بالبارانويا الرقمية- إلى تصنيف النقد العلني على أنه شعبوية، بدلاً من النظر إليه كأداة لتصحيح المسار.
إن الانفصال عن الواقع الاجتماعي والإنساني بسبب الموضوعية المفرطة وأحكام سطح المكتب يُفقد الاستراتيجيات والرؤى والخطط والبرامج قيمتها الأساسية فتخرج عن مسارها. الواقعية تفرض أن أي فكرة أو مشروع مهما كان منطقيًا أو مدعومًا بالبيانات، يجب أن يكون له أثر مباشر وملموس على حياة الناس. فإذا ركزت الحكومة على تحقيق نمو اقتصادي مرتفع دون النظر إلى توزيع هذا النمو، فقد ترتفع مؤشرات الاقتصاد الكلي، لكن على أرض الواقع، قد تظل مشكلة الباحثين عن عمل في تعاظم وركود الأعمال والمشاريع في تفاقم. هنا، تكون الفكرة قد انحرفت عن مسارها الأساسي أو تقدمت أهداف ومحاور على حساب أولويات أخرى دون تكامل واقعي ومتجانس بينها، لأن الهدف الحقيقي والمفهوم ليس مجرد تحقيق أرقام إيجابية دون تحسين جودة حياة المواطنين أولاً.
رغم الجهود الحكومية الحثيثة لتحقيق رؤية 2040، تظل هناك قضايا تثير قلق المواطنين وتتناقض مع تطلعاتهم، خاصة عندما يتم التعامل معها من منظور تحليلي جامد لا يراعي الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية. نظام “إجادة” مثال على ذلك، حيث يهدف إلى قياس الأداء الوظيفي في القطاع الحكومي وفق معايير موضوعية تعزز الكفاءة والشفافية. نظريًا، يعد هذا النظام خطوة نحو تطوير الأداء الحكومي، لكنه في الواقع خلق حالة من التوتر والخذلان وعدم الثقة بين الموظفين بسبب ميكانيكية معاييره التي لا تأخذ في الاعتبار طبيعة بعض الوظائف والمهام التي تتطلب إبداعًا أو تعاونًا جماعيًا لا يمكن قياسه بأسلوب رقمي صرف. فكثير من الموظفين يشعرون بأن النظام يركز فقط على الإنتاجية الرقمية بإنجاز المطلوب وإغلاق الملفات وليس على القيمة الحقيقية لأدوارهم في العمل مما تسبب في إحباطهم وسخطهم.
جاء قانون التقاعد الجديد في إطار تحقيق الاستدامة المالية، وهو هدف منطقي اقتصاديًا، لكنه أثار جدلًا واسعًا بسبب شروطه التي فاجأت العديد من المواطنين، الذين كانوا يعتمدون على النظام السابق في تخطيط مستقبلهم المالي. وأصبحوا ينظرون للغد بنظرة تشاؤمية يملأها الخوف في ظل التضخم وتزايد تكاليف المعيشة والتزاماتهم الاجتماعية والمالية. فعدم مراعاة الأثر النفسي والاجتماعي لهذه القرارات أدى إلى جدل واسع ومستمر.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة لتعزيز ريادة الأعمال وتنمية القطاع الخاص، تواجه الشركات الصغيرة تحديات بيروقراطية معقدة، تتمثل في الضرائب والتراخيص والتجديدات والاشتراكات والإجراءات المتعددة، التي تفرضها جهات مختلفة وكأنها تتسابق على استنزاف الجهد والمال والوقت الذي يبذله صاحب العمل. ورغم التعاميم الصادرة لمعالجة تأخر المدفوعات وغيرها، لا تزال هذه الشركات تعاني من صعوبة تحصيل مستحقاتها من المؤسسات والشركات الحكومية التي تقدم لها الخدمات. وتحت وطأة شروط وأحكام تزيد من هشاشة موقفها، تجد هذه الشركات نفسها مثقلة بالتزامات التأمينات ومتطلبات التعمين والتوريد، التي تفرض أعباءً إدارية ومالية تحدّ من قدرتها على التوسع أو توظيف الكوادر المحلية بسهولة، فضلًا عن التعقيدات المرتبطة بتوظيف الوافدين. ورغم أن التنظيم والإجراءات أمر لا غنى عنه لضمان ازدهار أي قطاع، إلا أن تراكمها بات يشكل عبئًا يرهق الشركات التي تعمل ضمن هوامش ربح ضيقة، مما يهدد استدامتها وقدرتها على النمو والمنافسة.
لتحقيق سياسات أكثر فاعلية تعكس الرؤى والأهداف السامية، يجب تبني نهج تشاركي مع المواطنين، واعتماد فترات تجريبية قبل تعميم القرارات، إضافةً إلى استخدام أدوات تحليل مرنة تراعي الأبعاد الإنسانية والاجتماعية. فالواقعية تتطلب أن تبقى الأفكار التي تصنع القوانين متصلة بحقائق المجتمع واحتياجاته، وألا تتحول إلى مفاهيم نظرية مجردة. النجاح الحقيقي لأي سياسة أو قرار يكمن في تحقيق الالتزام بأدبيات البحث والاستقصاء، ثم الاتزان بين الدقة التحليلية وفهم الطبيعة الإنسانية والاجتماعية للأفراد الذين ستؤثر عليهم. فإذا لم نكسر الجمود المتمثل في “الصرامة التحليلية” ونُدمج الواقع الإنساني في السياسات العامة، فإن الفجوة بين المنظومات والواقع ستظل تتسع، مما يؤدي إلى فقدان الثقة وضعف فاعلية القرارات التنموية.