لا شك أن تاريخ عمان زاخر وثري بالكثير من الأحداث التاريخية التي دونتها كتب التاريخ بيد المؤرّخين أو الرحالة المستشرقين بمختلف أجناسهم . ولا شك أن التاريخ المدوّن من قبل المستشرقين الأوربيين الذين نقلوا تفاصيل رحلاتهم بمختلف توجهاتها في عمان تعتبر من أهم الوثائق التاريخية التي تعكس الواقع الذي كان يحيط بالبلاد في فترة الخمسينيات والستينيات أي ما قبل عهد النهضة عام 1970 م. فقد كانت عمان منغلقة جدا على نفسها، وكانت الحروب تمزّقها في الوقت الذي اختلطت كلّ تلك الحروب بالنفوذ، وبحرب البترول، وبتلك الإكتشافات التي بدأت تهل على عمان بيد الشركات الأجنبية المتخصصة بالتنقيب عن البترول .
تاريخ التنقيب عن البترول في عمان:
من المهم جدا معرفة أولا بدايات التنقيب عن النفط في عمان ، فقد بدأت المسوحات الجيولوجية عن النفط في السلطنة منذ عام 1925م ، ومن ثم منح السلطان تيمور بن فيصل أول امتياز لشركة ( دي آر سي للإستكشاف ) التي كانت فرعا من شركة (الأنجلو الفارسية للنفط) ، ولكن هذه الشركة فشلت بعد عامين من البحث في تحديد مكامن النفط، فتم إنهاء التعاقد معها ، وفي عام 1937 م أعطي الأمتياز لشركة لشركة (العراق للنفط ) التي تبنّت عام 1937م اسما جديدا، وهو شركة ( تنمية نفط عمان ) ، وقد اكتشفت هذه الشركة النفط بكميات تجارية مربحة في شمال عمان في منطقة ( جبال ) عام 1962م ، وفي ( نتيه ) عام 1963م ، وفي (فهود) عام 1964م ، وصدرت أول شحنة من البترول العماني عام 1967م.
أما بالنسبة للبترول في المنطقة الجنوبية فقد منح السلطان سعيد بن تيمور حق الإمتياز لشركة أمريكية يمثلها ( ويندل فيلبس ) سنة 1952م الذي حوّل اسمها إلى شركة ( خدمات مدن ظفار للنفط ) ، وبسبب تدني أسعار النفط في تلك الفترة بشكل عام توقّفت الشركة عن العمل سنة 1967م، مع العلم إن الإكتشافات النفطية توالت في عمان وبالأخص بعد عام 1970 م .
ما دونته مذكرات بعض الرحالة والمستشرقين الأوربيين عن عمان في فترة الخمسينات والستينات :
كما يعلم الكثير بأن الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر ( مبارك بن لندن ) صاحب كتاب ” رمال عربية ” قد منعه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي من عبور عمان الداخل عام 1950 م ، وقد علل ثيسجر ذلك بقوله : ” إنهم إذا ما أذنوا لي في التجوال هناك أينما شئت فإن ذلك يعني أن مسيحين آخرين سيقتفون أثري، فيأتون باحثين عن النفط ساعين به إلى بسط نفوذهم على أراضيهم “. هذا السبب الجوهري الذي أدركه ثيسجر إنما يدلّ على إن الإمام كان يدرك تماما هوس الأوربيين كافة في البحث عن مكامن النفط في منطقة الخليج التي ساهمت بشكل كبير إلى نشوء الأطماع الإستعمارية في المنطقة ، ونشوب بعض الحروب التي وثقها التاريخ بسبب النفط ، فالبريمي مثلا تعرضت إلى أطماع سعودية جلية بقيادة شركة أرامكو الأمريكية التي ساهمت في ذلك الإحتلال السعودي لواحة البريمي عام 1952م ، ولكنّ العمانيين رغم انقسامهم واختلافهم السياسي منذ معاهدة السيب عام 1920م ، أي اختلاف الإمام محمد بن عبدالله الخليلي والسلطان سعيد بن تيمور اتفقوا لتحرير البريمي وإيقاف خطر المد السعودي في المنطقة، وبالفعل تم لهم ما أرادوا.
وفي عام 1954م توفي الإمام محمد بن عبدالله الخليلي ، وحاول غالب بن علي إحياء إمامة أخرى تحكم داخل عمان في الوقت الذي أراد فيه السلطان سعيد بن تيمور توحيد البلاد بعد كل هذا الإنقسام بين مسقط والداخل ، متزامنا كل ذلك مع نشاط الشركات الإنجليزية التي تبحث عن مكامن النفط في الداخل والتي واجهت صعوبة في ذلك نتيجة رفض المعارضة بقيادة غالب بن علي وأخيه طالب وسليمان بن حمير توغل تلك الشركات في البحث عن النفط بعمان الداخل ، وهذا الرفض طبعا قد عجّل بسقوط معارضتهم أمام قوات السلطان سعيد بن تيمور والدعم البريطاني الذي كان يهدف بالدرجة الأولى الحفاظ على استمرارية حقوق الإمتياز للكشف عن النفط العماني في البلاد كافة .
وفي عام 1955م ، توّج السلطان سعيد بن تيمور انتصاراته لتوحيد عمان تحت سلطته بأن قطع الصحراء من صلالة إلى نزوى بسيارته، وزار الكثير من المناطق والقبائل التي وفدت إليه، ودانت له بالطاعة بمن فيهم سليمان بن حمير نفسه مقدمين إليه الولاء . وبعد أن بدا أن البلاد قد اتّحدت هرب طالب بن علي إلى السعودية وأنشأ مركز قيادة الدمام واتحد مرة أخرى مع أخيه غالب بن علي ليتم إعلان الإمامة مرة أخرى عام 1957م لتقسيم عمان كالسابق ، وكانت البداية من نزوى والجبل الأخضر، ونشبت حرب أخرى بين السلطان وغالب بن علي انتهت كذلك بسقوط الإمامة مرة أخرى عام 1959م وهروب غالب بن علي وأخيه طالب وسليمان بن حمير وبعض الثوار إلى الدمام والقاهرة، لينهي بذلك السلطان سعيد بن تيمور حالة الإنقسام التي هلك فيها الكثير من العمانيين وتوقفت بسببها عجلة التمنية في البلاد مقابل تلك النهضة التي كانت تنمو في دول الخليج بسبب اكتشافات النفط والإنتاج .
كل تلك الإضطرابات والحروب في عصر اكتشاف النفط ساهمت في أن تدخل عمان في حالة انغلاق تام وجهل وتردٍ في الأوضاع الصحية في الوقت الذي لم يكن للرحالة الأوربيين نصيب كبير في زيارة البلاد ، بل كان منهم قلة قليلة كتبوا انطباعهم، ونقلوا لنا ما كان يحدث في تلك الفترة الصعبة من التاريخ . فمثلا كتب (أدوارد هندرسن) الذي زار عمان بهدف النفط ، والسياسة منذ عام 1952م، مصورا حالة الإنقسام والحروب في تلك الأيام التي اشتد فيه الصراع بين السلطان والثوار وتأخرت خلالها حركات التنقيب عن النفط كالتالي :
” أخذ الأمر يظهر جليا أن الناس في هذه المنطقة كلها يمقتون الإمام غالبا واخاه طالبا مقتا شديدا ، وأنهم على أستعداد أن ينضموا إلى الحكومة المركزية بقيادة السلطان على أمل أن يتنعموا بما يدرّ عليهم النفط ، فقد بدأ أن لا شئ يقدمانه، لا إدارة، ولا مال ، ولا معرفة ضرورية للتنقيب عن النفط ، كما إن حملات طالب العسكرية لم يكن لها شعبية عند القرويين ، إذ كان عليهم أن يطعموا تلك القوات ، أما غالب فقد كانوا يرونه شديد التزمت والتقشف والتعصب ، في حين أن سكان عبري كانوا منفتحين كثيرا مع إنهم مسلمون أتقياء يتقيدون بشعائر الإسلام “
أما الرحالة البريطاني (إيان اسكيت) صاحب كتاب ” مسقط وعمان ” فقد نقل لنا عن الوضع البائس في عمان نتيجة كل تلك الإضطرابات السياسية ،آنذاك، وانغلاق السلطان سعيد بن تيمور بعمان، وصرامته بالتالي : ” أعتقد إن السلطان يعد خير نموذج للإنجليزي الفكتوري ، قوام الأسرة ومؤدبها صارم ، على يقين بأنه على الصراط المستقيم، وبأنه أقدر الناس على قيادة شعبه قيادة الراعي لرعيته ، شديد الثقة بأنه أعلمهم لما ينبغي أن يفعل ومتى يفعل، وأعرفهم بمصالح عائلته وأضمنهم لها ، إن ما يقلقني ويقلق الكثير هو إن النظام الأخلاقي الفكتوري قد عفا عليه الزمن في عام 1968م ، حتى إن كان هناك طراز فكتوري في الملبس والمسكن وما شابه “.
أما بالنسبة للتعليم ،فقد قال اسكيت واصفا الحال : ” هكذا يبدو ما للتعليم من مقدرة على التطور ، 640 طالبا في أقصى التقدير بلغوا مستوى يصل به أفضلهم وأنجبهم إلى ما يمكن أن نصفه بالتعليم الإبتدائي ، أما المدارس الخاصة فتراقب مراقبة شديدة ، هذا إن سمح له أصلا ، لذا يضطر الطالب العماني إلى أن يكمل تعليمه في مكان آخر “. ومن الناحية الصحية فقط وصف اسكيت حال عمان في ظل تلك الإضطرابات السياسية كالتالي :
” إن أرجاء عمان كافة بأمس الحاجة إلى مزيد ومزيد من الدواء ، ففيها تتفشى الأمراض الناجمة من الفقر .. فتجد ذلك ماثلا أمامك بوضوح في مسقط ومطرح ، فالأطراف ذابلة مجعدة وأحيانا عاجزة عن النمو عجزا لا شفاء منه ، وعيون الأطفال قد أصبحت دبقة بالرمد ، وهناك العديد من العجزة الذين يقادون في الطرق ، فهم عمي تماما”.
ويشاركه بالرأي كذلك مراسل “ذي تايمز” الذي زار عمان سنة 1957م ويدعو ( ديفيد هولدن) الذي قال : ” لن تجد في قرى عمان كلها مكانا واحدا تتوافر في مقومات الصحة ، فالرمد ، والسل الرئوي، والملاريا، والروماتزم، وتسوس الأسنان فضلا عن التزاوج بين الأقارب، ونقص التغذية الناجم من سوء الأحوال ، كل ذلك جعل حياة العمانيين فقيرة بائسة شأنهم في ذلك شان كل من رأيتهم من البدائيين النبلاء ” .
إن أغلب ما تم كتابته عن مسقط وعمان في تلك الفترة لم تبين لنا سوى تلك الظلامية القاتمة في تلك المرحلة الصعبة من التاريخ العماني أي مرحلة الخمسينيات والستينيات ، مرحلة الإنقسام وتلك الحروب التي كانت تنشب بين الطرفين بين السلطان من جهة وبين الثوار من جهة أخرى ، والتي كان ضحيتها بالطبع الشعب العماني والتنمية في البلاد حتى أشرق ميلاد فجر النهضة العمانية في عام 1970 م حينما قَدم جلالة السلطان قابوس ابن سعيد مصلحة عمان وشعبها بالضغط على والده ليتنازل عن حكم عمان وهي تئنّ تحت خطر الحرب والإنقسام مرة أخرى نتيجة الخطر الشيوعي وحالة الغليان الشعبي الذي بدأ يتغلغل في الجسد العماني نتيجة تردي الأوضاع، وبالفعل بعد تلك الضغوط وانهيار القصر وتنازل السلطان سعيد بن تيمور عن حكم البلاد، تولى السلطان قابوس حكم عمان الجريحة ، لتبدأ السلطنة صفحة مشرقة تتسم بالتسامح ، والبناء، والتطور، والإنفتاح الذي جعل من عمان في مصاف الدول المتقدمة، ليعيش شعبها مرة أخرى حياة هانئة تتميز بالإستقرار والرخاء .
المرجع : عمان في عيون الرحالة البريطانيين ، قراءة جديدة للإستشراق ، د.هلال الحجري ، ترجمة د. خالد البلوشي ، النادي الثقافي ، الطبعة الأولى 2013 ، مؤسسة الإنتشار العربي .