أبجد

إنّما العمر زفرة

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

إنّما العمر زفرة

ترجمة للموت في شكل وردة

 

محمد الهادي الجزيري

 

” هزمتك يا موت الفنون جميعها “

 

هل أصاب الكبير درويش في صفعته لهادم اللذات ومفرّق الجماعات، أم هي مكابرة الإنسان التي اعتادها منذ البدء في مواجهة هذا القاهر والغريم الأبديّ ؟

أسئلة عديدة مشابهة لهذا السؤال هبّت عليّ وأنا أقاسم ” آن فيليب ” أحزانها وعواصف نفسها المجمّعة في كتاب شبيه بالقمقم الذي حدّثتنا عنه الجدّات والمتون القديمة، ذاك الذي كان سجن العفريت ، لكن أيّ عفريت هذا الكامن في ” إنّما العمر زفرة ” ؟، إنّه الأخطر على الإطلاق فهو النفس البشريّة في وقوفها وجها لوجه مع الموت المكتسح يوما بعد آخر لجسد الحبيب الغافل عن تسلّل الحياة من خلاياه ……

 

” إنّما العمر زفرة ” سيرة مكثّفة لحبيبين مزّق الموت رباطهما العاطفي والفكريّ المتين ، باحت بها الكاتبة الفرنسية آن فيليب ونشرتها سنة 1963 بعد الرحيل القاسي لزوجها المسرحي والسينمائي جيرار فيليب ، وقد ترجمت الكتاب القاصة والأديبة التونسية مسعودة بو بكر وتصدّت لمراجعته الكاتبة ابتسام خليل، وصدر هذه السنة عن دار البدوي للنشر والتوزيع بتونس..، وهذا الجهد الثلاثيّ المشترك لا يمكن للمرء إلاّ شكره وتثمينه فما أحوجنا اليوم في وطننا العربي المختنق بغبار الغزوات الحديثة إلى فتح كلّ النوافذ المتاحة ومن ضمنها نافذة الترجمة ، لينفتح العقل العربيّ على ثقافات أخرى ويعانق الكائن الإنسانيّ ويثري بالتالي مخزونه الروحيّ والحضاريّ والمعرفيّ…

 

” وددتُ لو ترتسم كلّ بصمة من يديك على جسدي، وأن أصدّ بلمساتي الفناء عن العبث بجسدك “

فادحة هي عاطفة الحبّ التي نقلتها لنا الكاتبة وهي تتوغّل بنا في شعاب ذاكرتها ، وتقصّ علينا غدر الحياة لها ولزوجها في أوج السعادة والرخاء والنجاح، مواقف حميمة كثيرة رسمتها لنا بدمع الحبيبة المصدومة بمباغتة المرض لحليفها في الحياة، وما أكثر الهواجس الحارقة والأسئلة الوجوديّة المضنية التي فاض بها قلمها ، فلقد كاد لها القدر وألقاها بغتة في هوّة مأساة لا قرار لها ، نقرأ لها بين طيّات الكتاب مثلا:

 

” كنتُ أدعو لك بالخلاص، أن يعجّل الموت إليك ، سيّان أن يحلّ كصاعقة أو أن يتسلّل كلصّ ..أكان بدافع الحبّ أن أطلب لك الموت، بعد ساعة زمن كنت مستعدّة لبذل أيّ شيء كي تظلّ على قيد الحياة ؟ “

أعتقد أنّ مسعودة بوبكر بخبرتها الطويلة في عالم الكتابة والسرد خاصة ، أفلحت في نقل الاضطرابات النفسيّة وما اعتمل من شجن وقلق في ذات الكاتبة ، إضافة طبعا إلى نجاحها في تمكين القارئ العربي من تحسّس شعريّة النصّ الفرنسي رغم قسوة المعاني والمشاهد المدرجة في جلّ صفحات الكتاب، فهو متن مؤلم حقّا ، كيف لا وكاتبته تجمع فيه تفاصيل الأيام الأخيرة التي قضّتها إلى جانب زوجها المحكوم عليه بالموت ، لا لجرم اقترفه بل لأنّ القدر أراد ذلك …

 

” كيف لي التسليم بأنّ هناك رجالا آخرين يولدون في ذات اللحظة التي فارقت فيها أنت الحياة ؟ “

رغم الشجن الخاص بآن فيليب وسردها لتجربتها الشخصية في مواجهة الموت، فإنّ القارئ يجد نفسه متورّطا في محنة الكاتبة منذ السطور الأولى ويظلّ يكابد معها معاناتها إلى آخر سطر، بل يبقى موجوعا بما قرأ ، إذ كما كتب الدكتور محمد البدوي في تقديمه للكتاب :

”  إنّه يتجاوز ذات الكاتبة وحياتها الشخصيّة ليكون كتاب الإنسان في مواجهة مصيره ، وتأمّلات في معنى الحياة ، لذا يجد فيه القارئ الكثير من ذاته …”

 

Your Page Title