منذر السعيدي
لا يمكن إنكار حقيقة الأعداد الهائلة المتراكمة من الباحثين عن عملٍ في الأعوام القليلة المنصرمة، وهذه الأعداد لا جدل أنَّ منسوبها يرتفع ويتضاعف بشكلٍ دوريٍّ وسنويٍّ على أقلِّ التقدير، وهؤلاء الباحثون يمكن تقسيمهم وتصنيفهم إلى فئتين رئيستيْن:
الأولى: من حملة المؤهلات العلمية الجامعية، بمختلف مستوياتها ودرجاتها.
والثانية: من مخرجات دبلوم التعليم العام أو ما دونه.
ولا يخفى على كل مراقبٍ ومتتَّبعٍ لهذا الشأن أنَّ وتيرة التوظيف في الخدمة المدنية بمختلف وزاراتها وهيئاتها ودوائرها قد تراجع وتضعْضع بشكلٍ جليٍّ ملحوظٍ، وهذا ما يمكن عَزْوُهُ إلى عدَّة مسبِّباتٍ متداخلةٍ ومتشابكةٍ، ومن الصعب بمكان تضييق محيطها وتقييدها بسببٍ دون غيره، وإن كانت الأغلبيَّة الساحقة من الباحثين أنفسهم تحصر السبب في تراجع أسعار النفط العالمية، وتأثيرها على مختلف قطاعات الدولة، ومصروفاتها، وسبل إنفاقها.
وعلى النقيض تمامًا من هذا القول فإنَّنا نرى أنَّ أبرز مسبِّبات هذا التراجع ليست أسعار النفط وتقلُّباته من حينٍ إلى حينٍ، وإن كان أحد الأسباب الجذرية؛ ولذلك فإن من غير الموضوعية إغفالها، وإنما نرى أن تشبع هذا القطاع بالموظفين هو السبب الرئيس لهذا الانحسار، فلم يعد هناك إمكانية لتوليد وظائف جديدةٍ في هذا القطاع، وإلا تحوَّلت العملية من توظيفٍ حقيقيٍّ، ذي ثمرةٍ لسدِّ الحاجات إلى بطالةٍ إيجابيَّةٍ مقنَّعةٍ بزيِّ الوظيفة وهندامها دون مهامها وأدوارها الفعلية.
فالرهان ودون أدنى شك يقع على عاتق وكاهل القطاع الخاص، وخصوصًا في هذه المرحلة المصيريَّة، ومن الواجب أن تتغيَّر نظرة القطاع الخاص نحو الباحث العماني، وتثق بإمكاناته وقدرته على الإنتاج، وفي المقابل على الباحث أن يعي أهمية هذا القطاع المهم والحيوي؛ لاستمرار قطار النهضة العمانيَّة الحديثة، بشكلٍّ يحفظ التوازن ويطوِّر المكتسب.
فبعد ما يقارب النصف قرن من انطلاق مسيرة النهضة العمانية لا يمكن أن نعد أنفسنا في مرحلة البناء والتشييد، وإنما الانتقال إلى مرحلة التنمية والتطوير والتحسين الشامل للوطن وخدماته ومنجزاته.
فكما إننا ننتظر من القطاع الخاص أن يكون على قدرٍ عالٍ من المسؤولية نحو الوطن، وذلك من خلال السعي الجاد، والتوجه الحق نحو تذخير عدته البشرية من القوى الوطنية؛ لتسهم في تنمية وطنها، وتشارك شرف وضع لبنة في أسواره، وتواصل طريق الآباء في الإعلاء من شأن بقعة الأرض التي نحيا بها، فإنَّ مستوى ترقُّبنا للباحث لا يقل عن مستوى الترقب للقطاع المعني.
فالمسؤولية هنا مشتركة، كما أنَّ أسباب تباطؤ عجلة التوظيف متعددة، فها هنا على الباحث أن يَعِي أنَّ القطاع الخاص يختلف اختلافًا كليًّا عن القطاع الحكومي، وإن كان الاثنان يذهبان نفس المذهب، ويحملان ذات الراية نحو المصلحة العليا للوطن، فالباحث عن عملٍ يجب أن يدرك أنَّ القطاع الخاص قطاع تنافسيٌّ، وليس ريعيًّا، والمال هو العصب المحرِّك لهذه المنظومة الرأسمالية ، فالتنافسية هي الصبغة السائدة في هذا القطاع.
فكما أنَّ أسعار خدمات ومنتجات هذا القطاع تصنَّف على هذا النحو والكيف، فالتوظيف في هذا القطاع يحتكم على ذات المعايير والأسس، فالباحث عن عملٍ يجب أن يبرز مواهبه وقدراته التي من شأنها أن تضعه محل الاختيار والاصطفاء في هذا المجال، فالصراع هنا صراع كفاءات، ولا يجب أن يكون صراعًا قانونيًّا إلزاميًّا نحو توطين الوظائف، والمعيار أن يكون الباحث أكثر مهارة أو أكثر معرفة من غيره في مجال الوظيفة ومهامها، وغياب أحد الشرطين – المهارة، أو المعرفة – يصبُّ في خانة الوافد الآسيوي، الذي يتقاضى مرتبًا زهيدًا بالمقارنة مع المواطن، ولا ننسى أنَّ توظيف عمالة غير ماهرةٍ – وأقصد هنا بالعمالة القُوَى البشرية، سواء كان مواطنا أو وافدا – يعني: تكاليف إضافية في التدريب، وهو ما لا تحبِّذه الشركات.
فللأسباب آنفة الذكر يجب على الباحث عن عملٍ أن يتناسى ويتوقَّف عن التغنِّي بقصاصة الورق – الشهادة الجامعية – التي بين يديه، والتي يظنُّها البعض تذكرة عبور، ومرور سهل نحو تحصيل الوظائف، والانتقاء والمفاضلة بينها، فهذه الدرجة العلمية ليست ذات قيمة في القطاع الخاص، إن لم يتم تدعيمها بقدراتٍ ومهاراتٍ عمليَّةٍ، وإمكانياتٍ حقيقيةٍ ملموسةٍ، فالدرجة العلمية لا تعني المهارة، وإن كانت تدلُّ على المعرفة النظريَّة، فالباحث إمَّا أن يكون ذا درجةٍ علميَّة مسلَّحةٍ بالمهارة العملية، وإمَّا أن يقبل أن يتساوى مع مَنْ لا يملكون الدرجة العلميَّة؛ لأن الجميع سوف يخضع للتأهيل والتدريب على مهام وظيفته، وهنا تتساوى كفتيّ الميزان.