منذر السعيدي
لا يخلو مجتمعٌ بشريٌّ مِن خرافةٍ أو أسطورةٍ تسري في أعضائه، وتجري فيه مجرى الدم، مهما تعلَّم وتفقَّه أفرادُه، وتطوَّر البحث العلمي بين أوساطه، فهذه الخرافات والأساطير يرتبط وجودها بوجود البشر أنفسهم في أيِّ محيطٍ اجتماعيٍّ كان، فالطبيعة البشرية تنجرف نحو الغرائب النادرة، وتميل إلى المتناقضات غير الاعتياديَّة، وتنبهر بالاستثناءات، ولا نبالغ عندما نقول إنَّ هذه الأساطير تلازم حياة البشر بحيثيَّاتها المتنوعة.
والمجتمعات الإنسانية تتميَّز بالتغيُّر، والتجدُّد، والتحوُّل، وتبدُّل أوضاعها، وطرق التعبير عن نفسها بممارساتها، وهذا التغيُّر والتحوُّل يُفرض على القاطنين في محيطها وأسوارها دون أن يعوا هذا التغيير مهما بلغ هذا المجتمع من درجات الانفتاح والوعي، أو ما يضاده من مستويات التقوقع والانغلاق على النفس، ومن داناه وجاوره.
وإن كان الكثير من علماء الاجتماع يعلِّلون سبب تكوُّن هذه الأساطير المجتمعية إلى تفشي، وانتشار الأميَّة والفقر في المجتمعات، وانتقال الأخبار عبر المشافهة، التي عادةً تكون عرضة للزيادة والنقصان والنسيان وغيرها من الأسباب والعوامل، ومن الملاحظ أن المجتمعات ذات الدخل العالي تقل فيها نسبة انتشار هذه الخرافات، مع التشديد على عدم خلوِّها منها، ولسنا بصدد تتبع أسباب تبلور وتشكُّل هذه الخرافات والأساطير في المجتمعات؛ لما تطلبه من بحثٍ ودراسةٍ علميَّةٍ رصينةٍ وعميقةٍ، وتتبع ميداني تطول أذرعه وتتمدَّد.
فنحن في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة والتدوين المرئي والمكتوب عبر منصات ومواقع التواصل الاجتماعي ولا زالت هذه الخزعبلات والخرافات منتشرة، على الرغم من كلِّ هذا التطوُّر التقني، فكما أنَّ أدوات البحث العلمي والاتصال والتواصل والإعلام تطوَّرت حدَّ مستوى الإبهار، ففي المقابل تطورت أدوات انتقال الخرافة، وخلقها، وولادتها، وتكوُّنها.
ففي هذا العصر بدأت الخرافة تحارب الوعي والعلم بذات الأسلحة والسبل وفي الساحات عينها، فالعديد من المستخدمين للتقنية الحديثة يعتمد على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي؛ لتغذية عقله بالمعرفة، وتنمية فكره بالقراءة والإطلاع النافع، ومحاورة ذوي الخبرة والرأي والكفاءة عبر هذه المنصَّات.
فالخرافة فعلت الشيء نفسه عبر مدِّ حبالها في هذه الشبكات، وجرجرة جهلاء المتعلمين وأنصافهم إلى أوكارها، وغزو المستخدمين؛ حتى وصلت إلى أسرتهم، ومضاجعهم، والتغرير بالبسطاء منهم، وتجنيدهم لخدمتها، وتحويلهم إلى مراسلين تحت إمرتها، لا يتقاضون أجورًا عمَّا يقدِّمون من خدمات.
والخرافة في هذا العصر لم تعد تقتصر على قدراتٍ خارقةٍ لماردٍ يُبعث من قُمْقُمِهِ السحري، أو مومياء متحركة تظهر في دجن الليل، أو ساعة غلس السحر، لكنها امتدت، وترامت؛ لتضع خيوطها وشباكها في سبيل تزوير الحقائق، ونشر الشائعات، والأكاذيب الباطلة، والاتهامات الملفقة، ناهيك عن إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بالصور والمعلومات المبتسرة التي يستخدمها العامة في شؤون حياتهم بسذاجة، تدلُّ على اضمحلالٍ خطيرٍ في التعامل مع المعلومة، وتمحصيها عبر الجدل العقلي الممنهج والموزون، وهذه الفئة من مبتسري المعلومات وتقطيعها تدعو في كل شأنٍ إلى تحكيم المنطقية العقلية، وهنا لا يعبرون عن المدرسة الفلسفية العقلية، وما أنتجته من أفكارٍ واتجاهاتٍ، لكنهم يرمون إلى تحكيم العقل والمنطق؛ بناءً على إيديولوجياتهم وخبراتهم السابقة التي لن تكون إلَّا ثوبًا من ثيابهم، وليس لها محك معياري سوى أذهانهم، وتناسوا مقولة العلماء الأوائل: “مَن تمنْطقَ فقدْ تَزَنْدَق”.
*مصدر الصورة الشبكة العنكبوتية