أهل عُمان.. حماة اللغة العربية وعلومها

أثير – تاريخ عمان

أثير – تاريخ عمان

إعداد – نصر البوسعيدي

إعداد – نصر البوسعيدي

برع أهل عمان منذ القدم في مختلف العلوم، والمعارف التي تعد من أساسيات حياة الإنسان، وتقدّم الحضارات، وازدهارها امتثالا للأوامر الإلهية، والنبوية في مسألة الاجتهاد في طلب العلم، والمعرفة، ونشره.

لذلك نجد أن العمانيين عبر التاريخ اجتهدوا كثيرا في طلب العلم، والتأليف، والأخذ من العلماء، والمفكرين السابقين كاليونان، وغيرهم بالإضافة إلى تمكنهم من إضافة الكثير من معارفهم للكثير من العلوم التي استفادوا منها، وبنوا عليها الكثير، وقد انفرد أهل عمان عن غيرهم في الكثير من المجالات كالطبّ، والفيزياء، والفلك، وعلم البحار، والفقه، وعلوم التفسير، واللغة العربية، وعلومها، وإلخ من معارف حفظها لنا التاريخ عبر المخطوطات العمانية حتى يومنا هذا.

وحينما نتحدث عن المخطوطات العمانية، فإننا نتحدث هنا عن مئات الآلاف من المخطوطات التي تركها الأجداد للأبناء ليكملوا مسيرة البناء، رغم تلف الكثير من المخطوطات نتيجة عدة عوامل على مر الزمن، ولكن ما يوجد حاليا من مخطوطات عمانية نادرة، ومهمة في مختلف العلوم لدليل كبير على الدور الحضاري الذي كان يسهم فيه العمانيون لخدمة الإنسانية.

لذا لا عجب أن نرى بعض الشخصيات العمانية تم إدراجها، بكل فخر، ضمن برامج الذكرى المئوية للأحداث التاريخية المهمة، والشخصيات المؤثرة بالعالم كالطبيب، والفيزيائي العماني المعروف بابن الذهبي (أبو محمد عبدالله الأزدي) الذي ألّف كتاب (الماء)، وهو أول معجم لغوي طبي عرفه التاريخ البشري، وكذلك الطبيب العماني راشد بن عميرة الذي برع في تشريح جسد الإنسان والدماغ إلخ.

إذًا، فالتاريخ يشهد بشكل جلي، وبالأدلة على الدور العماني العلمي في عدة مجالات، ومنها اللغة العربية وعلومها، لغة القرآن، والرسالة النبوية الشريفة.

ولكل علم تجد فيه نوابغ أسهموا بشكل كبير في حمايته، وحفظه، لكي يبقى خالدا بقوته للأجيال المتعاقبة، ولا شك أن اللغة العربية كانت هاجس أهل عمان الذين أصبحوا بحق حماتها نتيجة مؤلفاتهم المهمة جدا للغاية والتي أصبحت أسسا علمية ترتكز عليها اللغة العربية وعلومها.

وحينما نوثق عن أهمية دور إسهام العمانيين في حفظ اللغة العربية، فإننا نقرن كلّ ذلك بالأدلة الدامغة التي حفظها التاريخ في صفحات من ذهب.

وهنا عبر “أثير” سنعرض لكم أهمّ الشخصيات العمانية التي برزت لحماية اللغة العربية، وحفظها، وأخذت على عاتقها قضية التأليف، وتوريث كل علومها للأجيال القادمة، ومنهم على سبيل المثال وأشهرهم الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي سنتحدث عنه بشيء من التفصيل في هذا الموضوع، والعماني ابن دريد محمد بن الحسن الأزدي صاحب معجم جمهرة اللغة ، واللغوي أبو محمد الحسن بن علي المقرئ العماني صاحب كتاب الأوسط في علم القراءات وكتاب الجامع وكتاب المرشد في الوقف والابتداء وغيرها.

وبما أننا أشرنا لأشهر علماء عمان في اللغة العربية وعلومها، لا بد أن نسلط الضوء على الخليل بن أحمد الفراهيدي كمثال مثلما أسلفنا سابقا لنعكس واقعا مثاليا لجهود العمانيين في حفظ اللغة العربية وحمايتها من الضياع خاصة فيما يتعلق بقراءة القرآن الكريم بالشكل الصحيح:

شيخ اللغويين الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني:

شيخ اللغويين الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني:

وهو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الفراهيدي من أزد عمان، وتختلف بعض المصادر التاريخية في تحديد مكان ولادته، ولكنّ الأرجح بأنه ولد في عمان، ثم انتقل حاله من حال أزد عمان إلى البصرة حيث كان لهم هناك حي معروف في زمانه، وكانت الهجرات العمانية إلى البصرة ممتدة لفترات طويلة لطلب العلم في أهم حاضرة من حواضر الإسلام، فالبصرة كانت مركزا علميا، وحضاريا لجميع المسلمين، فتخرّج من البصرة الكثير من العلماء، والأدباء، والشعراء وغيرهم، ولذا كان أهل عمان أهل علم واجتهاد، وروابطهم مع أهل البصرة روابط تاريخية وعميقة جدا.

لقد حمل هذا العماني الأصيل على عاتقه هموم اللغة العربية، وكان يفكر كثيرا بعبقريته الفريدة في كيفية تسهيل اللغة، والحفاظ عليها، ونطق حروف القرآن بالشكل الصحيح من خلال تشكيلها، لذا اجتهد كثيرا في طلب العلم، وتتلمذ على يد علماء البصرة، آنذاك، كأبي عمرو بن العلاء، وأيوب السختياني البصري، وعثمان بن حاضر الأزدي، وغيرهم.

ويعد الخليل أوّل من أسس علم النحو العربي، والتأليف المعجمي وعلم العروض، وتشكيل الحروف العربية بالإضافة إلى شعره الذي أجاد فيه.

ومن أشهر مؤلفاته:

1- كتاب العين في اللغة: الذي يعد أول معجم جامع للألفاظ في اللغة العربية لحصرها، وضبطها، وجعلها مرتبة حسب مخارج الحروف، وحركات اللسان، والشفتين بداية بحرف العين، وآخرها الميم، ثم تتبعهم حروف العلة.

2 – كتاب فائت العين.

3 – كتاب النقط والمصاحف: الذي ابتكر فيه علامات التشكيل بالحروف مثل الضمة برمز واو صغيرة، والكسرة ياء صغيرة، وهكذا ليسهل للأمة الإسلامية قراءة القرآن.

4 – كتاب النغم: وهو كتاب مختص بعلم الموسيقى، وقد أخذ منه الكثير من بعده.

5 – كتاب الجمل: وهو مختص بكل ما يتعلق باللغة العربية في النحو.

6 – كتاب الشواهد.

7 – كتاب العروض: يتناول أوزان الشعر والدوائر العروضية التي ابتكرها.

8 – كتاب العوامل في النحو.

9 – كتاب تصريف الأفعال.

10 – كتاب النقط، والشكل.

أما جهوده في مجال الشعر، فقد كان الخليل بن أحمد الفراهيدي مرهف الكلمة، حكيم في أبياته رغم قلتها وقد قال الخليفة العباسي عبدالله بن المعتز عنه: ” إنه كان شاعرا مفلقا، وأديبا بارعا على قلة شعره إلا أن شغلة بالعلم كان أكثر منه بقول الشعر”.

وكان زاهدا في الحياة متدينا بعيدا عن متاع الدنيا، وانعكس ذلك على حسه الشعري، وهذا ما نراه جليا في ما أرسله من أبيات لوالي فارس من قبل المنصور على الأهواز سليمان بن حبيب، حينما قال له معاتبا قطع راتبه، حينما بعث نفس الوالي رسوله يطلب من الخليل تعليم أبنائه باعثا معه بعض الهدايا، فأخرج أديبنا لرسول الوالي كسرة خبز

قائلا :

أبلغ سليمان أني عنه في سعة

وفي غنى غير أني لست ذا مال

سخي بنفسي أني لا أرى أحدا

يموت هزلا ولا يبقى على حال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه

ومثل ذاك الغني في النفس لا المال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه

ولا يزيدك في حول محتال

والمال يغشى أناسا لا أصول لهم

كما تغشى أصول الدندر البالي

أما في مجال علم العروض، فيعد الفراهيدي العماني أول من اكتشف الإيقاعات التي كانت أساس الشعر العربي بعدما اطلع كثيرا على الشعر الجاهلي والأموي والعباسي وأطلق على منهجيته في البحث (البحور الشعرية) من خلال دراسته للدوائر الموسيقية، وتطبيقها على موسيقى الشعر، ولذلك كان له باع كبير في معرفة الإيقاع جعلته يؤلف في علم العروض، لدرجة أن أحد أبنائه اعتقد بأن أباه الخليل قد جن حينما كان يقطّع الأبيات الشعرية وفق أوزان العروض، وقال للناس بأن أباه قد وصل لمرحلة الجنون، فلما علم الفراهيدي بذلك قال:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

كما ألّف الخليلي أوزانا أخرى حديثة للشعر العربي كبحر المتدارك، ووزن المخلع في الشعر.

وللخليل بن أحمد الفراهيدي أفضال كثيرة في علم النحو، وقواعده ومصطلحاته للحفاظ على ضبط قراءة القرآن الكريم، وحمايته من اللحن والتحريف، فهو أول من أسس أصول النحو العربي في كتاب أسماه (الكتاب) بمساعدة تلميذه سيبويه شمل الصرف، والبلاغة، والخ.

ولقد استفاد علماء اللغة العربية كثيرا من تلك القواعد النحوية التي عني بها الفراهيدي لتستفيد من علمه الأجيال تلو الأجيال حتى يومنا هذا، حتى أن المستشرق الألماني (كارل بروكلمان) قد قال عن هذا العماني: ” إن الخليل هو المؤسس الحقيقي لعلم النحو العربي الذي وضعه سيبويه في كتابه بعد أن تلقاه عنه، وتعلمه منه”.

ولم يكتف الفراهيدي بذلك، بل توسّع في تطبيق العوامل، والمعمولات على أبواب النحو لأول مرة، فلم يكن قبله أي أحد في ذلك، فقد كان من قبله لا يعرفون سوى العوامل اللفظية، فأضاف الخليل إليها العوامل المعنوية.

كما يعد الخليل أول من راعى الموضع، أو المحل في الإعراب، وأول من فتح في النحو باب وفرة الاحتمالات، وتعدد وجوه الإعراب، كما اهتم في مسألة جواز تقديم بعض المعمولات على العوامل، وعدم جواز الفصل بين المتضايفين بجار ومجرور، أو خلافهما إلا في ضرورات الشعر، وأن العوض، والمعوض لا يجتمعان، وإلخ.

وبعبقريته استطاع هذا العماني الفذ أن يحفظ للعالم الإسلامي والأمة العربية مصطلحات النحو، وكل ما يتعلق بها، ووضع كذلك المصطلحات الدالة على أحوال الاسم، والفعل، وقسّم الحروف إلى حروف جر، وعطف، وجزاء، واستفهام، ولين، وزيادة، كما استطاع بعبقريته كذلك أن يضع الأسس الأولى للحضارة الإسلامية في مجال المعاجم، فقد ألّف أول معجم عربي منهجي علمي مرتب قائم على أسس علمية رصينة.

وجمع في هذا المعجم جميع الكلمات العربية سواء التي استعملته العرب، وما أهملته.

كما رتّب المعجم حسب مخارج الحروف من الحلق، واللسان، والشفتين ليسمي معجمه هذا بكتاب ( العين).

أما بالنسبة لجهوده في علم الصرف، فهو أول من وضع الميزان المصرفي ( ف ع ل ) الذي توزن به الكلمات، ويعرف من خلالها الزوائد واللواحق الداخلة على الكلمة.

كما يعد الفراهيدي أول من درس، وعني بعلم الأصوات العربية بشكل منهجي علمي مبني على الاستقصاء الدقيق.

إنّ من يتمعن بكل ما تركه الخليل بن أحمد الفراهيدي من مؤلفات في اللغة العربية، وعلومها سيعي تماما كيف أنّ لأهل عمان الفضل الكبير في حفظ لغة القرآن على مر التاريخ، ليسهموا بشكل فعّال في عظمة الحضارة الإسلامية، ويدفعون لذلك الغالي، والنفيس وكذلك الحياة التي يهبونها للعلم، وخدمة أهله.

ويكفي أن نعلم هنا أن المصادر التاريخية تشير إلى أن الخليل كان سبب وفاته اصطدام رأسه بعمود المسجد وهو سارح في علمه محاولا أن يضيف للبشرية رحمه الله، ما يستطيع من إضافته للغة العربية وعلومها.

https://youtu.be/QR1_oqrW0fw

************************************

المرجع: الدور العماني في خدمة اللغة العربية، بقلم مجموعة من الباحثين، تحرير: د. وليد فكري فراس، وصالح بن سليمان الزهيمي، وسلطان بن مبارك الشيباني، موضوع: الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي الأسطورة شعره وجهوده في خدمة اللغة العربية، بقلم: أ.د.أحمد عبد المجيد محمد الدندراوي، ذاكرة عمان، الطبعة الأولى، 2015م.

المرجع

Your Page Title