أثير- سيف المعولي
لم تكن كتابتُه على عقودِ إيجارات جدّه وهو صغير بريالاتٍ معدودة إلا خطوةً أولى لتوقيعه عقودًا مع كبرى الشركات بملايين الريالات، ولم يكن تنقّلُه من مسقط لصحار ذهابًا وإيابًا بسيارة أجرة “تاكسي” إلا فرصةً للتعرف على شوارعٍ سيتنقّل عبرها لاحقًا بـ “الرنج” و”المرسيدس” وإن أراد “البنتلي”، ولم يكن الدكان الصغير الذي استأجره في الخوير إلا مرحلة ابتدائية أتت بعدها فيلا تجارية عصرية يملكها على أحد الشوارع المهمة في العاصمة مسقط، كما أن رفضه لـ 70 ألف ريال من أحد التجّار أراد شراء أسهم من شركته في أولى السنوات لم يكن سوى استشرافٍ بأن هذه الشركة ستتعدى قيمتها السوقية اليوم ملايين الريالات العُمانية.
من جهتي لم أكن أعلم بأن صاحب الشركة التي يتراءى لي اسمها في أغلب شوارع العاصمة مسقط يحمل قصةً مُلهمةً ومتفرّدة في الطموح والإصرار والعصامية إلا بعد جلوسي معه، وإقناعه بقبول الحوار مع “أثير”؛ إذ كان رافضًا الفكرة من الأساس، فبتواضع الكبار كان يؤكد “لم أنضج بعد وقصتي لا تستحق النشر”، لكن ما إن ذكرت له بأن الشباب العُماني بحاجة إلى تحفيزٍ للهمّة عبر النماذج الناجحة حتى فتح الباب على مصراعيه وأخذ يسرد المشهد تلو الآخر ليتحوّل الحوار معه من نصف ساعة إلى أربع ساعات مرّت كـ “لمح البصر”.
هو شاب عُماني بدأ في الأعمال الحرّة بعمر الـ 19 عامًا، وتعدّت قيمة أملاكه وهو في عمر 24 عامًا 700 ألف ريال “دون ورث أو هبة من أحد”، لكنه بعد حين فقد كل شيء لدرجة أنه لم يستطع شراء “أبسط” احتياجات ابنه البكر في يوم مولده، ليعود مرة أخرى بإصرارٍ منظّم، وبعقلانية تُؤكد بأن “اليأس” لا مكان له في قلوب الحالمين، وعقول الطموحين، وتكون انطلاقته الحقيقية عبر الآية القرآنية رقم (89) في سورة النحل التي أرشدته إلى لفظة اختارها لشركةٍ أصبحت اليوم “أشهر من نار على بنايات مسقط”.
*فهد الإسماعيلي
أول الأرباح
بعمولة قيمتها 50 ريالًا عُمانيًا دخل فهد بن سلطان الإسماعيلي مؤسس شركة تبيان للعقارات عالم العقار، حيث كان يدرس إدارة الأعمال في جامعة صحار في تلك الفترة، فكلّفه بعض أفراد عائلته في مسقط بشراء بعض الأراضي والعقارات لهم هناك، لتتحوّل الـ “50” إلى “500” ريال، وتزداد الخبرة من الشراء للغير إلى الشراء لنفسه، حتى وصل به الحال أنه يأتي من صحار إلى مسقط مرتين في اليوم عبر “تاكسي” لنقل الزبائن.
أيام العزّ
انفتحت أبواب الرزق للإسماعيلي، فبعد العمل عبر التنقل بـ “تاكسي” استأجر مكتبًا صغيرًا في الخوير بمبلغ لا يتجاوز 200 ريال شهريًا، وأصبح دخله شهريًا يفوق أحيانًا الـ 30 ألف ريال عُماني، لتأتي معها السيارات الفارهة، والسفرات الكثيرة، والصرف بـ “لا حساب”، وكأن لديه بحرًا “لا ينضب”، ورغم النصيحة التي تلقاها من أحد رجال الأعمال المشهورين في السلطنة بـ “عدم التشتت” إلا أنه فكّر في التوسّع عبر نشاط آخر قلب عليه الطاولة.
انكسار المركب
دخل الإسماعيلي في مجال الشاحنات فاشترى أربعًا جديدة بـ “الكاش”، وأدخلها في مشروع مطار مسقط الدولي، لتأتي رياح 2008م بما “لا تشتهي استثماراته”، فتوقفت حركة العقار، وأصبح الركود هو العنوان، ليقوم ببيع ما لديه بالخسارة؛ فأرض اشتراها بـ 150 ألفًا باعها بـ 60 ألفًا، وسيارة أخذها بالكاش تنازل عنها بأقل من قيمتها بـ 50%، حتى وصل به الحال أنه لم يستطع شراء أبسط احتياجات ابنه البكر في يوم مولده لأنه لا يملك أي سيولة رغم أن سيارته المركونة في مواقف المستشفى كانت “رنج روفر” جديدة.
نصيحة ذهبية
لجأ فهد إلى “العضد”، وصارح والده بالحال التي وصل إليها، فنصحه بالبحث عن وظيفة خصوصًا وأنه أكمل مرحلة البكالريوس، فسجّل في وظيفة إدارية بإحدى الجهات المرموقة في السلطنة “الكل يتمنى العمل بها”، وأثناء المُقابلة حدث ما لم يتوقعه أحد.
قيل له في المقابلة بأنه مقبول، وأنه يستطيع مباشرة العمل فورًا، إلا أنه فاجأهم برفض العرض، وأخبرهم بعدم رغبته في الوظيفة، قائلًا لهم بأنه يحسّ نفسه في العمل الحر فقط، ورغم محاولتهم لإثنائه عن قراره إلا أنه كان مصرّا وخرج من هناك “منتصرًا” لإرادته.
السفارة الأمريكية
وجد الإسماعيلي إعلانًا نشرته السفارة الأمريكية في السلطنة عن رغبتها في تعيين مسؤول عن العقارات، فسجّل – رغم عدم اقتناعه التام- بسبب “حبّه للعقار”، وأثناء المقابلة قُدِّم له العرض فقبِل به بعد “استشارة” أحد مشائخ العلم. يقول عن هذه المرحلة: ” فترة عملي بالسفارة الأمريكية كانت من أفضل الفترات، حيث تم ابتعاثي في دورات لواشنطن، وتدرّبت على كيفية التفاوض في إدارة العقود، كما كوّنت علاقات كثيرة، واكتسبت خبرة ساعدتني في استعادة حلمي الذي لم يخمل في ذهني وهو إنشاء شركتي الخاصة”.
استعادة الشغف
بعد سنتي عمل في السفارة الأمريكية وجد الإسماعيلي نفسه قادرًا على البدء من جديد وإحياء “الحياة الرغيدة” التي كان يعيشها في الفترات الأولى لكن بـ “تعقّل” و”تنظيم” و”عمل مؤسسي” فاتجه إلى تكوين اسم وهوية لشركته. ولأنه أراد أن يبدأ بوضوح وشفافية واستفادة من أخطاء الماضي لم يجد أفضل من لفظة “تبيان” التي وجدها في آية قرآنية كان يقرأها من المصحف الشريف في أحد المساجد.
الحلم يكبر
بدأت الشركة في التوسع، فبعد مكتب واحد في بناية الريم بالخوير إلى فيلا بالإيجار لتأتي بعدها فيلا مملوكة، وبعد موظف واحد ارتفع عدد الموظفين إلى 36 موظفًا يشكّل العُمانيون منهم ما نسبته حوالي 70% وبحوافز ورواتب جعلت البعض “يستقيل” من جهات معروفة للعمل في “تبيان”. ومن دكان صغير إلى إدارة آلاف الوحدات السكنية حتى حصدت الشركة جائزة أفضل وكالة عقارية لعام 2018م من “أوليكس عمان”. يتحدث الإسماعيلي عن ذلك قائلا: من خلال خبرتي ومسيرتي عرفت أن العنصر البشري هو المهم في نجاح العمل، لذا نهتم بهم كثيرًا فإلى جانب الرواتب العالية هناك “بونس” وعمولات ممتازة ودورات تدريبية، ومشاركة في معارض داخل السلطنة وخارجها، و قريبًا سنسهم في تعليم أبنائهم “.
*مبنى الشركة الحالي
العميل أولًا
يؤكد الإسماعيلي بأن أحد أسباب نجاح شركتهم هو اهتمامهم بالعملاء بشكل متساوٍ، فالعميل صاحب الـ 100 ريال يلقى المعاملة نفسها التي يُقدّمها الموظف للعميل صاحب الملايين، كما أن الشركة اهتمت بالجانب التكنولوجي لتسهّل على العملاء، وهي الآن تستثمر في نظام إلكتروني يكون الأول من نوعه في السلطنة، وتتجاوز قيمته الـ 50 ألف ريال يجعل التواصل بين الشركة وعملائها بشكل إلكتروني في جميع الخدمات.
*احتفال الموظفين بجائزة “أفضل وكالة عقارية”
الأسطورة
ينظر فهد الإسماعيلي من مكتبه الفاخر إلى حركة شارع 18 نوفمبر فيتذكر تنقّله بـ “التاكسي” وفي حقيبته “الكروكيات”، وتلمس أصابعه “الماوس” وهو يطّلع على “إيميلات” الشركات والمستثمرين” فيتذكر القلم الذي كان يملأ به عقود الإيجارات لجدّه في روي، ويرسم في اللوحة الموجودة أمامه “حلمًا” بدأ التخطيط له من الآن؛ ” المكتب الذي كان صغيرًا سيصبح شركة مساهمة عامة ستُطرح للاكتتاب العام”، فما هو رأيك أيها القارئ الكريم، أليس صاحب “الأسطورة” أعلاه قادرًا على التنفيذ؟