د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
تُطالعنا المنصات الاجتماعية بين حينة وأخرى، بأحداث غريبة، وتناقضات عجيبة، تسمين للتفاهة ونشر للسذاجة وإخراجها بكل هدوء من وكرها ليدوّي وقعها الآفاق، وتضجّ بها المنصات، وينتشر أمرها في كل محفل، وكأنها حدث جديد، وإلهام لم يخطر على البال، فيتعاظم شأنها، ويقوى حضورها، ويتسابق الناس في نشرها، ويسخّر المجتمع كل الوسائط المتاحة بين يديه لتداولها، حتى أصبحت لدى البعض مائدة الحديث في المنزل والعمل واللقاءات العائلية والاجتماعية وغيرها، ليحوز صاحبها على سبق الذكر، فعلى شأنه، وارتفع عدد متابعيه، وتزاحمت الناس على صفحاته، وبين هذا اللغط والحيرة التي أظلمت على الناس حس تمييز الحقيقة، ضاعت الكلمة الطيبة والذكر الحسن لصناع الكلمة الصادقة والمعرفة الحقة، وهُمش أصحابها، فلم يعد لها ذلك التشجيع الذي تستحق، أو الحضور الذي يضعها في مقدمة الاهتمام، فأين ما يحصل مما ضربه الله مثلا للعالمين – ولله المثل الأعلى- بالكلمة الطيبة ، كالشجرة الطيبة، نبراس الحياة ونورها، وضوؤها وسراجها، ومصداقيتها وتبيانها، فهي أساس البدء، وستبقى شاهدة إلى يوم الدين، في استقامتها وشموخها ، وسموها وسموقها، ومقامها وعلوّها، ووضوحها وصفاؤها، ونقاؤها وبهاؤها، وصدق تأثيرها وكفاءة انتاجها، لتسعد الانسان، وتبني الأوطان، وتقرّب البعيد، وتحفظ الود، وتقيم النهج، وتصدق القول، نافذة أمل للإنسان في مواجهة الكلمة الخبيثة، عديمة الأصل كما هي عديمة الثمر والإنتاج، وكان علينا أن نعيد تصوير المشهد، ورسم الصورة ونصحح المعادلة عبر تشجيع الكلمة الطيبة؛ والدفع بها وأصحابها إلى الأمام ودعمهم ليستعيدوا موقعهم في المشهد الحضاري الإنساني بدلا من هؤلاء.
وفي ظل هذا التنازل عن سقف التوقعات، والتساهل في التعاطي مع الكثير من الثغرات، والاحتكام إلى النيات، ومحاولة إبعاد الشرع وأحكامه الفصل من ضبط التعامل مع هذه المنصات، والقول بأنها فسحة ذاتية للتجول فيها وإثرائها دون تقييد أو معاتبة، ولأسباب أخرى كثيرة وجدت التفاهة حضورها الواسع، ومن يروج لها، ويصفق لصانعها، ويشجعه على هذا الأمر إما بقصد أو غير قصد، ولما كانت المعايير في هذه المنصات الاجتماعية التواصلية لا تعترف بالبواطن ولا يعوّل فيها على النيات، بل بإثبات ذلك في الواقع من خلال مؤشرات رقمية تظهر في أعداد المتابعين والمتفاعلين مع التغريدات بأي لغة أو وصف أو رد كتابي أو حتى باستخدام أحد الرموز والتعبيرات المستخدمة، فإنها تقيس حجم المتابعين والمهتمين بهذا الحساب إذ إن كسب أكثر الأصوات هدف رئيسي يريد أن يصل إليه هؤلاء من هذه المنصات، والسؤال الذي يتبادر للذهن ألا يدري مستخدمو هذه المنصات الاجتماعية جميعها بدون استثناء أو غيرهم من أبناء المجتمع أن إعادة تغريدات هؤلاء ونشرها والإعجاب بها والتعليقات عليها والاقتباس منها إمعان لهم في الاستمرار في الفعل، وفرصة لهم للاشتغال بهم.
لقد وجد هؤلاء بسبب هذا التفاعل الحاصل مع ما يصدر منهم من تغريدات أو كلمات أو عبارات أو وسائط فيديوهات وصور وغيرها ، فرصتهم في الظهور، وطريقهم للبروز، وتحقيق الشهرة وتداول اسمه، – ولا يهمه إن كان هذا التداول على سبيل المدح أو الذم، ما دام يجد نفسه حاضرا بقوة في الحوارات واللقاءات والنقاشات على مختلف المستويات والمواقع والمواقف، إذا ما علمنا أن نسبة احتضان هذه المنصات لفئات الشباب العماني في الفئة العمرية (18 سنة فأعلى)، تجاوزت 94% بحسب إحصائية المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، إذ إنهم يمتلكون أو يستخدمون واحدة أو أكثر من وسائل التواصل الاجتماعي مثل، الواتس أب بنسبة (93%) ، واليوتيوب بنسبة (71%)، وغيرها، يضاف إلى ذلك اتساع حضور وتأثير التدوين الاجتماعي المصغر ( التويتر) نتيجة عالميته وشعبيته الكبيرة وميزة التفاعل فيه خصوصا في حشد التفاعل مع الهاشتاقات ووصولها إلى الترند.
ولعل مقارنة التعاطي مع تغريدات هذه الفئة، والردود حولها، وتغريدات غيرهم من المفكرين والعلماء والباحثين والسياسيين والإستراتيجيين الذين لهم حضورهم وموقعهم، تبرز التناقضات على أشدها وتفصح عن حالة اللغط الفكري والانجذاب السلبي الذي يعيشه مواطن اليوم – إلا قليلا – في تقييم العالم الافتراضي وما يدور فيه، وهو ما يعود بنا إلى السؤال : من صنع للتفاهة هذا الحضور؟ ، ومن أوجد للمحتوى الهابط هذه القيمة؟، ومن أسهم في جعل أصحابها مشاهير؟ والاجابة عن السؤال لم تعد اليوم بحاجة إلى تقصٍ أو بحث معمق أو استبانة أو استطلاع رأي، فالحقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي تشير بأصابعها إلينا جميعا – نحن مستخدمي المنصات التواصلية أو غيرنا من أبناء الوطن وبناته ممن أوصلنا لهم هذه التغريدات أو وصلتهم بطرق مختلفة، إذ نحن من أشار إليهم، وتداول مقاطعهم ، وأثرى محتواهم، ووفر لهم فرص الدعاية والتسويق بدون أن يبذلوا أدنى جهد، ليجد نفسه محاطا بالكثير من المتابعين والمهتمين في العالم الافتراضي أو حتى الواقعي، ولم تعد المسألة اليوم مقتصرة على مجرد تغريدات هذه الفئة وسقوطها الفكري والأخلاقي، بل إن التأثير الذي أحدثته عمليات المتابعة والنشر والاهتمام التي يحظى به هؤلاء على النشء أكثر مما يتصوره البعض، فلا عجب أن نرى اتجاه الكثير من أبناء المجتمع مع الفكر التحريضي ونزعته الذاتية، ولا عجب أن نرى توجهات فكرية مقاومة والعياذ بالله للدين والأخلاق والقيم، ولا عجب أن نرى من يدافع عن أفكارهم ويتقمص شخصيتهم ، وما الحديث عن حالة التحريض ضد قيم المجتمع وهويته إلا نتاج لهذا الاهتمام والاحتواء المجتمعي لهذه الفئة ، بما يمثله من احتواء فكري وضمانات تتيح لهم الاستمرار في نشر مثل هذه التفاهات، ولا غرابة في ازدياد أعداد هؤلاء- لأنهم ببساطة اختبروا ضجيج الرأي العام وتصرفات الناس فوجودها ظاهرة صوتية تتجه لكل ناعق وتصفق لكل ناهق، لنجد أنفسنا بأننا من أسهم في نشر التفاهة وجعل أصحابها مشاهير.
لذلك لم يأت هؤلاء بالفطرة، ولم يكن ما يصنعه هؤلاء اليوم من خروج عن المألوف وزيغ عن النهج، ومخالفة للمعتاد، وإدخال الشباب في قضايا جدلية وأفكار خلافية واجتهادات شخصية لبعض المتصدرين أمام الشاشات والفضائيات، إلا في ظل معرفة وإدراك يقيني بما تؤول إليه الأمور، من ترك فراغ هذه المساحة ، لينبت في ثغرة حرية التعبير، صراع مرير، ونقاش مستميت بين مؤيد ومعارض وآخر ليس له من الأمر شيء إلا بوضع رموز تعبيرية، ليجد الشباب أنفسهم أمام حالة من التأزم الفكري والعقم المعرفي وحالة من الاندفاع تعلوها صيحات الخلاف ونبرة الاختلاف وتتجاذبها عبارات الشتم وغيرها من الممارسات التي باتت تضج بها المنصات الاجتماعية، في حين ظل دور أصحاب المحتوى التافه يراقبون الوضع من بعيد دون أن ينطقوا ببنت شفه، ودون أي رد مكتوب منهم ينهي حالة الاختلاف وكأن الموضوع ما طرح إلا لإشغال المجتمع بمهاترات شخصية ورغبات ذاتية ، بل وجد بعضهم في هذه الردود التي تحمل في طياتها تجريحا لشخصه أو اتهام ا له أو تحريضا عليه، أو إثارة نزعات قبلية أو شخصية أو أوصاف وألقاب وتصريح يمس كرامته ، فرصته في المطالبة بحقه القانوني ورفع دعواه لجهات الاختصاص، لتضيف إلى مكسب الشهرة مكاسب الربح المادي السريع.
أخيرا؛ هل نحن بحاجة إلى إعادة بناء الذات وتصحيح المغالطات وتجاوز السقطات التي تسببنا فيها في استخدام المنصات الاجتماعية؟، نعم. فالأمر لا يحتمل، والوضع سيخرج عن السيطرة إن لم نرتقِ بأنفسنا، ونعيد صياغة ممارساتنا، ونصحّح ما علق من شوائب وتراكمات، فلنخلص العمل فإن الناقد بصير، والقاع قد امتلأ بما أسهمنا به من نشر التفاهة والمحتوى الهابط وإعادة توجيهه ومنحه الشهرة والتعريف به على حساب المبادئ وصناع الكلمة، ولنعترف بأننا قد أخطأنا الطريق وضللنا المسار وتسببنا فيما فعلنا من الإساءة لهويتنا وقيمنا ومبادئنا وأخلاقنا كعمانيين.