عمانيات

عمر المنذري يكتب مقامة اللَّحام

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

مسقط-أثير
إعداد: عمر بن عبد الله المنذري، طالب في كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس


يُحكى أن ابن الأجودي سرى ضربًا بخفه إلى بلاد قصباء، تُذكر في المواصف، وعند قديم المطاطب أنها غرباء، يحدها عن أهل السكاك وبناة الأسواق وادٍ يلقب بالبطحاء، ترفع الشمس خيامها، وتمسكها أرض صفراء، يساخ فيها الغريب بحِيرةٍ، لا يهتدي إلا بحظٍ سامقٍ أو صدفة عمياء، زهرها شوك يسلب مناطيد السماء، أرضها إعصار يدغدغ أضلع البيداء، فترقى على بعد مسير خطواتٍ، وتهبط بلا عناء.
فوصل إليها ابن الأجودي ونزل، بعدما شح عليه المساغ والبلل، فأقبل على أهلها واقتبل، فرحب به مجلسٌ مركون على إحدى الفلل، فحط من مطيِّه، وحط عندها العِلل، ونسى المراكب وما أصابه من خلل، ونزع من جسده كل عائق شلل، فأنشدهم حالهم، وأصبح حديثه ثقيلا يرجح كفه عما أثقلته ملاحن الكلل.
وبعدما فَلَتَ حديث اللحى واضطبع، قام فتىً يبدو عليه الوداد والورع، واستهل بمقامٍ ركيك، وكأن الفناء قد أغبر عليه وشبع، وفجأة فك لثام ثغره ولمع، واسترسل بنظمه المسحور واتَّبع، نازعًا عن عنقه رقص الحناجر والجزع.
فقال: قد سرى اللجام، إلى بنات اللحام، فطلبت أوسطها، فقَبِلت وردت، وتقسمت وجناتها وبكت.
وقالت: أبي قد شاخ فلا يجيب، وأخي بعيد الدار غير قريب، ورجال البيت قد تخطفهم وحش المسير، يبطشون الفيافي بأخفاف البعير، متمسكين بأطراف الحياء، لعل الله يفرج عنا شر البلاء، فلا نجوع ولا نعرى، فقد ملأنا الدهر ذعرا، وأحاط بنا الإفلاس قفرا.
فلم أكن متعنتا، ولا رحالا متعصبا، ولا إلى أهل الخيار غاصبا، فقلت لها: فلنذهب إلى المالكية؛ لعل أرباب الفقه لا يدعنا نشقى بالسؤال، ولا بالحاجة إلى القُرب والوصال.
فطرق بابَ المالكية وعبَّر، بعدما صلى الظهر وكبَّر، فوجد أرباب الإباضية قد نزلوا ضيوفا، وقد دخلوا قبله صنوفا، طرقوا العتبات وسلموا وقوفا، فقال لهم: إني وجدت بنات اللحام بلا حَكَم، فطلبت يد واحدة بلا قلم، وقد جئتكم أبغي المشورة، ولا أظن أن ابنة اللحام صبورة، فبالأمس قد غنَّت بالنكاح جهورة، وأخاف أن تتوق النفس إليها عجولة، فتخطئ الخطى وترجِع مكسورة مخذولة.
فقال المالكي: إن النكاح قد بطل، ولِيٌّ ما هنالك قد جُهِل، وضيوفنا هكذا يقولون، في شرع الله هكذا يحكمون.
فعندما سمع الخبر انبجس، لولا الشدة لكان قد فطس، فقال: هاتوا برهانكم، قبل أن تفتوا أحكامكم، فتضربوا القوم بجهالة، وهم فيكم متمسكون بعناقيد الكفالة.
فأشار الإباضية لقول الله تعالى: ﭽوَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّﭼ، فوجه الدلالة “فلا تعضلوهن”، ولا تضيقوا على النساء وتمنعوهن.
ثم أردف المالكي قائلا: عن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ»، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أيُّما امرأةٍ نَكَحَت بغيرِ إذنِ وَلِيِّها فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فإنْ دخَلَ بها فلها المَهرُ بما استحَلَّ مِن فَرجِها، فإن اشتَجَروا فالسُّلطانُ وَليُّ مَن لا وليَّ له»، وفيما سبق ما قد مُنِع، فيمن فهم وفيمن سمع.
فلم ترُق تلك الأحكام للغلام، وهدَّمت ما بنى من الأحلام، فقال يا ابنة اللحام: لا أظنك سترضين بصريح الإباضية والمالكية، وأقول إنهم أفتوا كما تفُتي الجاهلية.
فقالت: فاثخُن في الساحةِ إن لنا ربًا رقيبا، وسِر ومَن معك من أسباط الحديد، وزُخرف الفكر، وسرايا العبيد، من لهم جازت الطاعةُ لربِّ القصيد، ومن يجهر بصوت النهضة والربِّ الفريد.
وإني لأقاسمك عرش الوهن والكآبة، وعجز الحيلة وقلة الحماسة، وإني معك فيما تنظر، وحينما تسمع وعندما تبصر.
فسار بعدها الغلام إلى بلاد قريبة، محاذيًا بنعله كثبانًا عصيبة، وشمسٌ تتوسط كبد السماء بإطلالةٍ قصيبة، تُجاذِب عَرَق جبينه إلى الأرض البسيطة، بها سمرٌ وسدرٌ محيطة.
فلما بلغ بلاده المنشودة، بعدما رمى إليها الحجارة المقصودة، وعِصيّه التي جرحت بطن الفجاج المشدودة، وجد عندها الشافعية، فسأل ونبل، وحط ونزل، فقال له شيخ الشافعية: إننا في الحكم نتفق، وهكذا الحنابلة مَن منهم قد سَبَق، ونزيدك في الأدلة آية، يقر بها قلبك، وتفتح لك أبواب الهداية، فقد قال الله تعالى: ﭽفَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّﭼ، وقال: ﭽوَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْﭼ ، وقال: ﭽوَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواﭼ، فوجه الدلالة أن الخطاب قد تذَكَّر، ولو كان لهن لما تأخَّر.
وبعد أن فرغت مقامع الحديث، رجع الغلام القوي كسِيف، خائبًا يترقب، كيف له أن يحبِك عذراً؛ ليتهرَّب، وابنة اللحام تنتظر الجواب، ولا تعلم أن السعي عند بني الشافعية والحنابلة قد خاب، فغالب صدر الغلام اليائس، وسرعان ما بدا عليه التقاعس، فوجده شيخٌ عند قارعة الطريق، وأحس أن الغلام قد سقط في الحزن غريق، فقال له الشيخ: يا حاجة لا تنتكس، ويا سائل الأرباب لا تبتئس، فعندي لك المخرج، اذهب إلى الحنفية واعرج، واسألهم حاجتك بعناية، ولا تسلك عندهم سبل الغواية.
فعرج الغلام حيث رمى له الشيخ الوصي، واثق الخطى ورافع الرأس والأكتاف، فوجد عنده الأحناف.
فلامس الغلام أحد سقوفها وهو بالغ الفصام، فوضع يدهُ حتى جفت البصام، حتى قام أحد السادنين وهو ألد الخصام، بثغرٍ قد جانسه القصام، وعينٍ قد جفَّ أريجُها، مائلة الطرف والجِفن هصام، قد شبّ جسمه من الأنين والحصام.
فقال شيخهم: أرى أن غلاما قد عرج إلينا، يسأل حاجته عما قد قضينا، ونحن الأحناف نقول فيما قد رويت، إنك في النكاح قد وفيت، فلا ترجع فيما قد أبليت، فإن كانت ابنة اللحام قد بلغت سن الرشاد، فالنكاح بلا ولي صحيح بلا امتعاض، ثيبًا كانت أم بكر الحجاب، فالولي معتبر للصغيرة، للتي لم تبلغ الرشد وحذافيره، وخلافنا مع الجمهور في الأدلة إن صحة الثبوت، وإسقاط الأحكام عليها والهبوط(1)، فإننا نستدل بقول الله تعالى: ﭽحَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُﭼ، وقوله أيضا: ﭽفَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِﭼ، أليس في ذلك عبارة واضحة، أن الفعل منسوب إليهن بالضمائر الشارحة؟ ومِن مواقفه نأخذ العبر، كما جرى في لوح الخنساء بنت خِذام الخبر، وهكذا الخصام عندما عرض أمام علي، فأجاز نكاح المرغومة بلا حكم الولي.
فلما سمع الغلام الخطبة، انزاح عن صدره همُّه وخطبُه، وشعر أن الأرض تتفصد، وأن قلبه من البهجة سيصعد، فقال: أيها الأحناف قد كفيتم، وأسررتم الفؤاد وما نعيتم، وما أرى للجمهور عندي من خلاق، فقد رجعت من عندهم بأحكام الطلاق.
فقام أحد القاعدين وتمحص، ودقق الطيف في الغلام ليتفحص، فقال: ألست أيها الغلام ابن المقفع الكبير، المشهور بالكذب ذي الحبل القصير؟ كيف لك أن تأخذ من الأحناف في القرابة، وتترك ملة أربابك دون رقابة؟
اذهب ولا تعد إلينا، يكفي أننا من شر اعْطِباطك قد نجينا، فبالأمس تحتال، وعن الجمهور اليوم تختال، نقَّى الله سريرتك، وكتم عن الخلق شر خبيئتك. ا.ه.
(1) جاء في بدائع الصنائع: ((الحرة البالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من رجل أو وكَّلت رجلا بالتزويج فتزوجها أو زوجها فضولي فأجازت جاز في قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف الأول، سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء، بمهر وافر أو قاصر، غير أنها إذا زوجت نفسها من غير كفء فللأولياء حق الاعتراض، وكذا إذا زوجت بمهر قاصر عند أبي حنيفة خلافا لهما)).
الكاساني، بدائع الصنائع، ج2، ص247.













Your Page Title