خاص- أثير
كاتب المقال: المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي
نشر المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.
فرويد والمسألة اليهودية
(2)
تقديم وترجمة: جورج طرابيشي
كثيراً ما اُتهم التحليل النفسي بأنه اختراع يهودي، بله مؤامرة صهيونية، لا بحكم الأصل اليهودي لفرويد فحسب، بل كذلك لأن فريق العمل الذي التفّ حول فرويد وانتصر لنظرياته كان يتألف من غالبية عظمى من الأطباء والمحللين النفسيين من ذوي الأصول اليهودية رجالاً ونساءوبالنظر إلى التطورات الجيوبوليتيكية اللاحقة التي شهدتها الساحة العربية منذ أن حققت الصهيونية حلمها الكبير في إقامة دولة يهودية في فلسطين فإن موقف فرويد ((الازدواجي)) ـ إن صحّ التعبير ـ من هويته اليهودية والسلبي في الوقت نفسه من الإيديولوجيا الصهيونية يضفي على النصوص التي نقدمها هنا للقارئ العربي، والتي تنشر لأول مرة بالعربية(3)، أهمية استثنائية.
ج.ط
رسالة بمناسبة تدشين الجامعة العبرية
(نُشرت في عدد 27
آذار/ مارس1925 من مجلة
يهودا الجديدة The New Judaea
نصف الشهرية استباقاً لتدشين الجامعة
المذكورة من قبل اللورد بلفور
في 10 نيسان/ أبريل 1925).
لقد قال لنا بعض المؤرخين إنه إذا كانت أمتنا الصغيرة قد قاومت دمار استقلالها كدولة فذلك يعود فحسب إلى كونها قد بوَّأت ثروتها الروحية وديانتها وأدبها أعلى درجات سلّم قيمها.
إننا نعيش اليوم في زمن وضع فيه هذا الشعب نصب عينيه أن يعاود الاستيلاء على أرض آبائه بمساعدة دولة تهيمن اليوم على العالم(1). وهو يحتفل بهذه المناسبة بتأسيس جامعة في عاصمته القديمة(2).
إن الجامعة لهي مكان تُدرّس فيه المعرفة متعاليةً فوق جميع فوارق الأديان والأمم، ولا يكون فيه من نهج للبحث العلمي سوى أن يبيّن للإنسانية مدى قدرتنا على فهم العالم الذي يحيط بنا وإلى أي حدّ نستطيع ضبطه والتحكُّم به.
إن مشروعاً كهذا لهو شهادة نبيلة على درجة التطور التي وصل إليها شعبنا بشقّه لنفسه طريقاً عبر ألفي سنة من مصير تعِس.
وإنه ليؤسفني أن سوء صحتي لا يسمح لي بحضور احتفالات تدشين جامعة القدس اليهودية.
1 ـ يقصد بريطانيا العظمى. (م).
2 ـ سوف نرى أن موقف فرويد الإيجابي هذا من احتمال قيام دولة يهودية في فلسطين سينقلب في رسائله اللاحقة إلى موقف سلبي تماماً.((م)).
من خطاب برسم
أخوية ((أبناء العهد))
(في يوم 6 أيار/مايو 1927، وبمناسبة بلوغ فرويد السبعين من العمر، أقامت أخوية ((أبناء العهد)) B’NAI B’RITH احتفالاً في فيينا لتكريمه. وهذه الجمعية هي أخوية يهودية ذات أهداف ثقافية وخيرية تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1843 وانتمى فرويد إلى فرعها الفييناوي عام 1897 وألقى فيها على مدى العشرين سنة التالية إحدى وعشرين محاضرة دارت موضوعاتها حول التحليل النفسي وكشوفاته حصراً، ومنها على سبيل المثال محاضرات عن تأويل الحلم والنكتة واللاشعور والموت، فضلاً عن تحليلات لكتابات شكسبير وإميل زولا وأناتول فرانس، إلخ. ويبدو أنه انقطع عن المشاركة في أنشطة الأخوية في السنوات العشر اللاحقة. ولهذا، وبمناسبة الاحتفال الذي نظمته في عيد ميلاده السبعين، وجّه آخر رسائله إليها ليشيد بما كانت أفسحته أمامه من مجال لعرض كشوفه التحليلية النفسية في زمن كانت فيه هذه الكشوف تقابل بالمقاطعة، أو حتى بالشجب، من قبل المنابر الثقافية السائدة. وبحكم يهودية تلك الأخوية، وبحكم أصول فرويد اليهودية كذلك، كان المدار الرئيسي من رسالته التي تلاها عنه أخوه على هذه القَسَمة المشتركة. ومما جاء فيها):
… في السنوات التي تلت عام 1895 مررت بتجربتين كان لهما بالتضافر وقع واحد عليّ. فمن جهة أولى كنت قد توصلت للمرة الأولى إلى النفاذ إلى أعماق الحياة الغريزية البشرية، وعاينت أشياء كثيرة كان من شأنها أن تبدِّد أوهام الواهمين، بله أن تبثّ الذعر في أنفسهم للوهلة الأولى. ومن جهة أخرى كان من شأن النجاح الذي لاقته كتاباتي عن كشوفي المستكرهة أن جعلني أخسر القسم الأعظم من علاقاتي الإنسانية آنذاك. وعلى هذا النحو وقعت تحت وطأة الشعور بأن نطاقاً من الحظر قد ضُرب عليّ، وأني بتُّ مجتنَباً من قبَل الجميع. وفي إسار طوق العزلة هذا استيقظتْ لديَّ صبوة إلى حلقة مختارة من الناس من ذوي الفكر المتسامي تبادر إلى احتضاني بمودة وصداقة رغم غلّوي في جسارتي. وقد وُجد من ينبهني إلى أن رابطتكم هي المكان الذي يمكن أن يتواجد فيه أمثال أولئك الأشخاص.
ولئن كنتم يهوداً فما كان ذلك إلا ليستجيب لأمنيتي، لأني كنت أنا نفسي يهودياً، ولطالما بدا لي أنه ليس من المنكر والمشين فحسب، بل من الحمق وغباء العقل الصريح إنكار ذلك. أما ما كان ما يربطني باليهودية فلم يكن ـ لأعترف بذلك ـ الإيمان، ولا حتى الكبرياء القومية، لأني كنت طيلة حياتي غير مؤمن، ولقد أُنشئت تنشئة لادينية، وإن بدون استهانة وازدراء بالمطالب الموصوفة بأنها ((أخلاقية)) للثقافة الإنسانية. أما الخيلاء القومية فشعور كنت أجنح دوماً، كلما راودني قدر منه، إلى قمعه بصفته ضاراً وجائراً، وذلك تحت وطأة الذعر ووجوب أخذ الحذر في مواجهة ما كانت تضربه لنا الشعوب التي نحيا نحن اليهود بين ظهرانيها من أمثلة. بيد أنه بقيت أشياء أخرى كانت تحول بيني وبين مقاومة جاذبية اليهودية واليهود، وفي عدادها دوافع عاطفية غامضة كثيرة، دوافع يزيدها اضطراماً كونها غير قابلة للتعبير عنها بكلمات، فضلاً عن الوعي الصافي الصريح بوحدة الهوية وبالطمأنينة الناجمة عن بنية نفسية متماثلة. وعلاوة على هذا كله، سرعان ما استبان لي أني أدين لطبيعتي اليهودية وحدها بالصفتين اللتين صارتا لي إلزاميتين على دروب حياتي الشاقة. فلأنني كنت يهودياً كنت أجدني طليقاً من عديد من الأحكام المسبقة التي تحدّ كثيرين من الآخرين في مدى استخدامهم لعقلهم، ولأنني يهودي وجدتني أيضاً على استعداد مسبق للانضواء في صف المعارضة وللعزوف عن التفاهم مع ((الغالبية الكتيمة))(1).
على هذا النحو صرتُ واحداً منكم، وشاطرتكم اهتماماتكم الإنسانية والقومية، وكسبت بعض الأصدقاء في صفوفكم، وحثثت الأصدقاء الذين تبقوا لي على الانتساب إلى رابطتكم. وبديهي أن هدفي ما كان قط أن أقنعكم بنظرياتي الجديدة، ولكن في زمن ما كان فيه أحد في أوروبا يصغي إليّ، وما كان لي فيه في فيينا بالذات أي تلميذ، وما كان أحد يصغي إليّ، منحتموني أنتم حسن انتباهكم وكنتم جمهوري المستمع الأول.
1. الإحالة هنا إلى مسرحية عدو الشعب للكاتب النرويجي هنريك إبسن (1882). فلأن طبيب مصحّ المياه المعدنية توماس ستوكمان فضح ما آلت إليه المياه من تلوث، فقد اصطدم بمعارضة ((الغالبية الكتيمة)) التي كانت تدعمه إلى ذلك الحين. ففي أثناء اجتماع عام وُجِّهت إليه تهمة إنزال الإفلاس بمالية البلدية ووُصم بأنه عدو للشعب. ويومئذ هتف بعالي صوته: ((إن أقوى إنسان في العالم هو الإنسان الأوحد). ((م)).