فضاءات

المفكر العربي جورج طرابيشي: فرويد والمسألة اليهودية (4)

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

خاص- أثير
كاتب المقال: المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي


نشر المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.

فرويد والمسألة اليهودية(4)

تقديم وترجمة: جورج طرابيشي

كثيراً ما اُتهم التحليل النفسي بأنه اختراع يهودي، بله مؤامرة صهيونية، لا بحكم الأصل اليهودي لفرويد فحسب، بل كذلك لأن فريق العمل الذي التفّ حول فرويد وانتصر لنظرياته كان يتألف من غالبية عظمى من الأطباء والمحللين النفسيين من ذوي الأصول اليهودية رجالاً ونساء، وتحديداً في الدولتين اللتين كانتا تضمان ((الجالية)) اليهودية الأكثر تعداداً والأكثر فاعلية في
العالم يومئذ: الأمبراطوريتين الألمانية والنمساوية.


تجرية دينية معاشة

(في نهاية عام 1927 تلقى فرويد رسالة من طبيب أميركي يعلمه فيها أنه كان قد فقد الإيمان بعد أن رأى في المشرحة وجه امرأة مسنة جميلة ولطيفة، فقال في سرِّه: كلا ثم كلا! لو كان الله موجوداً لما سمح بأن تصل إلى قاعة التشريح امرأة عجوز بمثل هذه الطيبة! ولكنه ما قرّر على هذا النحو أن يكفّ عن أن يكون مسيحياً حتى سمع صوتاً في داخله يقول له: إياك ثم إياك! فكل ما جاء في الإنجيل هو كلام الله، وكل ما قاله يسوع المسيح هو حقّ! وعلى الأثر عاد إليه إيمانه. ولهذا كتب إلى فرويد ضارعاً إلى الله أن يتظاهر له هو الآخر ليردّ إليه إيمانه، حتى ولو كان يهودياً، لأن اليهودية لا يمكن أن تقف عائقاً على درب الخلاص. وقد عرض فرويد فحوى رسالة الطبيب الأميركي إليه في مقال نشره في مجلة إيماغو، العدد 14، 1928، وضمَّنه الفقرة التي نترجمها أدناه من ردِّه عليه):
… أجبت بكل تهذيب بأني كلّي غبطة أن يكون أتيح له، بفضل مثل تلك التجربة المعاشة، أن يحافظ على إيمانه. وأضفت قائلاً: لكن الله لم يفعل معي الشيء ذاته، ولم يُسمعني مثل ذلك الصوت الداخلي؛ وبالنظر إلى عمري، فإنه إذا لم يبادر إلى فعل ذلك بسرعة فلن تكون الغلطة غلطتي لو بقيت إلى آخر أيامي ما أنا عليه اليوم… يهودياً غير مؤمن!(1).


1 ـ بالإنكليزية في النص: AN INFIDEL JEW. ((م)).

من رسالة لفرويد إلى ألبرت آينشاين
بتاريخ 26 شباط/ فبراير 1930


…. لست أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولة يهودية، وأن العالم المسيحي أو المسلم سيقبل ذات يوم بأن يدع الأماكن المقدسة في أيدي اليهود. ولقد كنت سأحسن الفهم أكثر لو جرى تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ. ولست بمستطيع أن أجد في نفسي ظلاً من التعاطف مع مثل ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قومية على حائط هيرودس، والذي لا يتوجس، حباً منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين.

رسالة إلى حاييم كوفلر

(كتب فرويد هذه الرسالة في 26 حزيران/يونيو 1930 ردّاً على طلب كان وجّهه إليه، وإلى العديد من الشخصيات الأوروبية البارزة، طبيب يهودي هو الدكتور حاييم كوفلر، العضو الفييناوي في ((الصندوق التأسيسي)) اليهودي طالبه فيها بتوقيع عريضة احتجاج ضد عرب القدس لما يقومون من أعمال شغب وعنف لمنع اليهود من الوصول إلى حائط المبكى الذي يشكّل قسماً من المسجد الأقصى. وقد بقيت رسالة فرويد الجوابية سرّاً مكتوماً على مدى أكثر من سبعين عاماً، وذلك بعد أن كان المرسل إليه الدكتور حاييم كوفلر قد سلّمها إلى ناشط صهيوني يميني متطرف وهاوي جمع تواقيع في القدس يدعى أبراهام شوادرون مقابل تعهده بـ ((ألا يتاح لأي عين بشرية أن تقع عليها). وقد وفى جامع التواقيع بتعهّده، ومن ثم لم يُكشف النقاب عن الرسالة إلا بعد مرور خمسة وسبعين عاماً، وذلك عندما نشرتها مجلة جامعة سيينا الإيطالية بالتوقيت مع صدور كتاب أرض الميعاد لمؤلفه ميشيل رانشيتي، المعني بتاريخ الكنيسة والتحليل النفسي معاً. وقد أخذت الرسالة طريقها إلى الرأي العام الإيطالي، ثم الأوروبي والعالمي، بعد أن أعاد الصحفي باولو دي ستيفانو نشرها في الجريدة اليومية الإيطالية المشهورة ((إيل كورييره ديلا سيرا)). وفيما يلي نص رسالة فرويد):

((عزيزي الدكتور،
لست بمستطيع أن أفعل ما تتمناه.
إنني أشعر نفسي عاجزاً عن التغلب على نفوري من إثارة اهتمام الجمهور بشخصي، ولا يبدو لي أن الظروف الحرجة الحالية من شأنها أن تحملني على فعل ذلك. فمن يشأ أن يؤثِّر على الجمهور الكبير يتوجَّب عليه أن يقدِّم له شيئاً مدوياً ومثيراً للحماسة؛ والحال أن حكمي على الصهيونية لا يسمح لي بشيء من ذلك، ومن المؤكد أني أتعاطف مع كل مجهود يبذله المرء بملء حريته، وأنا فخور بجامعة القدس(1) وبازدهار المؤسسات التي يؤسسها المستوطنون. لكني، من جهة أخرى، لا أعتقد البتة أنه من الممكن أن تصير فلسطين دولة يهودية، ولا أن العالمين المسيحي والإسلامي مستعدان لأن توضع أماكنهما المقدسة تحت إشراف يهودي. ولقد كان يبدو لي أنه من الأحصف لو أقيم وطن يهودي على أرض لا ترزح تحت مثل ذلك الثقل التاريخي. لكني أعترف بأن وجهة نظر عقلانية كهذه ما كان لها حظٌّ كبير في أن تحظى بحماسة الجموع، وبالدعم المالي من الأثرياء.
إني أسلِّم بحزن بأن التعصب اللامبرر من جانب مواطنينا قمين بتحميله جزئياً ملامة إيقاظ ريبة العرب. وأنا لا يسعني أن أكنّ تعاطفاً مع ضرب من التديّن أساء اختيار وجهته ومن شأنه أن يحوِّل جزءاً من حائط هيرودس(2) إلى معْلَمٍ قومي، ولو على حساب جرح مشاعر السكان الأصليين.
فلتحكم بنفسك الآن ما إذا كنت أنا الشخص المؤهل، بوجهة النظر النقدية التي أصدر عنها، لتقديم المؤازرة لشعب أسلم زمام أمره لوهم أمل ليس له ما يبرره.
خادمك المُجِلّ
سيغموند فرويد




(1) يقصد جامعة القدس العبرية (م).
(2) هيرودس الأول أو الكبير (73ـ 4 ق.م) الذي نصّبه الرومان على عرش القدس، فجرّد الكهنة اليهود من سلطانهم وقتل زوجته وعدداً من أولاده لسدّ الطريق على كل منافسة سياسية من شأنها أن تهدد سلطته. وطبقاً لإنجيل متى أمر بقتل جميع الأطفال الذكور في بيت لحم بعد أن أُنبئ أن ((ملك اليهود)) (الطفل يسوع) قد ولد. وهي قصة تكرر بصورة شبه حرفية القصة التوراتية عن الأمر الذي أصدره فرعون مصر بقتل جميع المواليد الذكور من الأرقاء اليهود. ولكن هيرودس اشتهر أيضاً بكونه واحداً من كبار البناة في التاريخ، وفي جملة ما بناه هيكل القدس وأسوارها.((م)).


Your Page Title