فضاءات

رادوبيس: أو القلب الفقير لملك

رادوبيس: أو القلب الفقير لملك
رادوبيس: أو القلب الفقير لملك رادوبيس: أو القلب الفقير لملك

لـ : معاوية الرواحي

“أريد أن أشيد قصورا ومقابر، وأن أتمتع بحياة سعيدة عالية ولا يقف في سبيل رغباتي إلا أن نصف أراضي المملكة في أيدي هؤلاء أولئك الكهنة .. أيجوز أن تعذبني رغباتي كالفقراء؟؟”

هكذا يردد الفرعون بصوتٍ عالٍ على مرؤوسيه المطيعين، أنه يريد أن يستمتع بالحياة أكثر مما هي ممتعة حياة الفرعون، أكثر مما هي ممتعة ومليئة بأنواع اللذات.

تبدأ رواية نجيب محفوظ [رادوبيس] المنشورة عام [1943] وهي من الأعمال الأولى له في منتصف الحبكة. مشكلة بين الملك وبين الكهنة. مشكلة [إسكانية] في الحجم الكبير الذي استحوذ عليه الكهنة من الأراضي، والملك يريدها، ولأنه الملك، لأنه الفرعون فلا يوجد من يقول له: لا. إلا الكهنة طبعا، فهم الذين يعلمون ما تريده الأرباب.

من هذه الحبكة تبدأ رواية رادوبيس. حبكة سياسة معتادة في أدب نجيب محفوظ. وهناك ميزة جميلة في أعمال نجيب محفوظ الأولى، في المهارة الأهم التي اشتهر بها كروائي بعيدا عن أعماله التي قدمت الواقع السياسي والاجتماعي المصري عبر شخوص الروايات، امتازت أعمال نجيب محفوظ بالدقة التاريخية، وبالقدرة العميقة على نقل القارئ إلى ثقافة [الفراعنة] مصر آنذاك، إلى الكهنة وصراعهم مع الملك، وإلى الملك ونظرته للشعب، وإلى أعياد الفراعنة وشهورهم، مهارة عميقة لا تتداول وتتناول عادة كما يتم تناول مهارته في النقد والسرد الاجتماعي-السياسي في أعماله الكبرى مثل الثلاثية، أو أعماله التي تقدم [مصر] الحقيقة كزقاق المدق، أو أعماله التي تحمل صبغة فلسفية يناقش فيها ما تعودنا عليه من نجيب محفوظ، الفكرة عبر الشخوص والكاركترات الفنية الناطقة بالفلسفة، أو نقد الروايات التاريخية للحقيقة كما حدث في الرواية الجدلية أولاد حارتنا.

يقوم نسرٌ من نسور الأفكار، [نسر حقيقي في الرواية] بسرقة صندل الغانية رادوبيس التي كانت تستحم في بركة في قصرها. الغانية الشهيرة التي يقصدها كبار رجال الأعمال، وأساتذة الجامعة [تخيل!!! أساتذة جامعة في ذلك الزمان] والتجار، يسرقُ منها نسرٌ صندل ليقوم بإلقائه في حجر الفرعون، حبكة لم تعجبني كثيرا ولا تخلو من إسقاط على الروايات التاريخية، ولكن رغم ذلك فإن ما قادت له الحبكة هو المهم في هذه الرواية.

تخرجُ الغانية رادوبيس يوما ما إلى ضيف جديد يزور قصرها، وعلى عكس باقي الضيوف الواقعين تحت سحر أنوثتها الذي لا يقاوم، يأتي الفرعون الشاب الواثق بنفسه ليقول لها: هل هذا صندلك؟ [وحبكة السندريلا] التي يقرؤها عشاق قراءة الروايات في عشرات الروايات حبكة ناجحة دائما في [منطقة] قصص الحب لتكون الفاتحة الغرائبية لها ممهدا لنهاية غرائبية. وماذا يحدث بعد؟؟ تبدأ قصة الحب بين الملك وبين الغانية الشهيرة.

وكأنما مثّل نجيب محفوظ هذه الجارية [بالحياة] الدنيا أمام [شؤون العباد] هذا لو أردنا أن نقوم [بإسقاط للإسقاط]، ينشغل الملك الشاب بقصة الحب الجديدة زيادة عن اللازم، وبينما يتابع هو مشكلته الإسكانية مع الكهنة ذوي السلطة المعنوية العالية على الشعب، ينشغل الملك بسوق ذهب وقوت الشعب إلى قصر عشيقته، بل وحتى الملكة [أخت الملك أيضا] التي ذهبت إلى هذه الجارية الوقحة حاولت فعل شيء ما يوقف الكراهية التي تسببها هذه الجارية اللعوب للملك الذي وقع في غرامها.

ولكن هل كان الملك هو العاشق الوحيد في الحكاية؟ لا طبعا .. ليس في روايات نجيب محفوظ، وقعت أيضا رادوبيس، المرأة الحجر، المرأة التي لا تعرف الحب، وتجيد كل أفانين العشق وشؤونه، حتى هذه الغانية اللعوب وقعت في شيطان الحب، واشتعل قلبها بالعذاب وبذل العشق وهوانه، والهوى هو الهوان كما عرفته امرأة في زمان غابر.

أليست رواية تدور عن السياسة؟؟ لا بد من خيانة في كل رواية سياسية، وهذا قانون لم يخالفه نجيب محفوظ، وهنا نجد خيانة قائد حرس الملك الذي شارك ملكه في التعشّق بالمرأة نفسها. تتسرب رسالة سرية للغاية كان الملك ينوي بها أن يحشد [جيشا] يقوم به بإذلال الشعب، ليتم خنق وقتل المؤامرة الملكية في مهدها، ومع ذلك فإن الملك لم يتوقف، لا عن استفزاز الكهنة، ولا عن سرقة موارد شعبه من أجل الجارية رادوبيس.

لا أحد يستطيع مفاتحة الفرعون بالحقيقة، والرأي العام يصرخ في يوم مقدس: تسقط ناهبة المعابد. والأوغاد يصرخون: نريد ملكا جاداً، تتسارع الأحداث في الصفحات الأخيرة، وتبدو النهاية متوقعة بعض الشيء، ومع ذلك لم يجعل نجيب محفوظ النهاية كما يريد القارئ مطلقا، فهذه ليست عادته مع قرائه. على هامش الرواية التاريخية، فإن الثوار يدخلون على الملك قصرَه، وتمتد يدٌ لم تؤخذ بهيبة الملك [الإلهية] لتصيبه بسهمٍ قاتل.

يقول الملك: لا قتال بعد اليوم .. ويطلب أن يؤخذ إلى بيت حبيبته ليسلم الروح هناك. تصرخ الحبيبة: دعوه لأموت في صدره.

تجيبها وصيفة بجفاف: صدر الفرعون ليس لحدا لأحد.

تقع المعشوقة في سم العشق الذي ألقته في قلوب العشاق. تخرج جثة الملك الميت من قصرها. تشرب ملكة الحكاية قارورة من السم، لتموت ولتخلف وراءها كل الأسئلة الممكنة في الحكاية وفي الرواية. هل كانت رادوبيس الحياة الدنيا التي لا يمكن أن تجتمع لفرعون شاب مع حكم بلاد؟ ومن الذي قتل الآخر؟؟ هل هي التي قتلت الفرعون؟ أم الفرعون قتلها ؟؟؟ يترك نجيب محفوظ السؤال معلقا لي ولك، دون إجابة يمكن أن يجدها أحد.

Your Page Title