فضاءات

المقال الأسبوعي للروائي العربي واسيني الأعرج عبر “أثير”

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير-الروائي العربي واسيني الأعرج

بقيت أمي زمنا طويلا تدور في سجن السواني، كمن يبحث عن شيء لا يعرف ملامحه بدقة، وكانت من حين لآخر، تغيب تماما ولا تبق إلا نظرتها الحائرة. تنظر إلى الوجوه العابرة، التي لا تتوقف إلا قليلا وما تكاد تسألها حتى تنسحب نحو شأنها الحياتي كأن لا أحد كان قادرا على لمس الناس التي كانت تحرقها من الداخل. لا أحد نورها أو حدد لها المعابر والطريق الموصل إلى قصة والدي. بابو، كبير “الحركة” قال لها: راكي تضيعي في وقتك. لا داعي للركض، فهذا لا يفيد، أحمد هرب إلى الغزوات ومن هناك استقل سفينة صيادين مموهة، ومن هناك سافر إلى إسبانيا قبل أن يتوجه إلى فرنسا. بينما منصور الحركي هو أيضا أنكر أن يكون قد رآه أبدا، بينما هو الوحيد الذي رافق جثتي والدي وبوزيان لكحل نحو مكان مجهول، اغلب الشهادات كانت تشير إلى حواسي أولاد صالح حيث الفراغ والخلاء. ولا أحد يراقب ويتابع. شهادة عمي بوحفص كانت قريبة إلى الحقيقة. تتقاطع مع كلام معظم السجناء وفصلوا فيها الذين عرفوا والدي الذي كانوا يسمونه: “رئيس غروب دو شوك” Groupe de Choc. حتى زوج خالتي الحاج علي الذي كان قريبا من مسؤولي البلدية والقايد وكان يعرف الجميع، قال بنفس الشيء وكان من وجهاء القرية وتصله المعلومات. عندما دخلنا إلى بيتي خالتي رحمة وعائشة كانتا تبكيان بدموع حارة، اندهشت أمي كيف وصلهما الخير.
– لقد أخبر بعض السجناء وبعض عمال الكرطي (الثكنة) الحاج علي عن وفاة أحمد تحت التعذيب.
– أنتم أيضا تؤمنون بأنه قتل ولم يهرب؟
– الحاج علي يعرف الصغيرة والكبيرة. لا يقول شيئا إلا إذا قلبه طويلا في قلبه وأمام عينيه. وأحمد ليس من النوع الذي يهرب.
كلها شهادات تتقاطع مع شهادة الآخرين.
عندما وقفت على باب الحاكم العسكري قبل أخيرا أن يدخلها إلى مكتبه. كنت ملتصقا بها. لا أدري كيف كان قلب أمي، لكني تخيلته شديد التمزق. كانت منهكة وجريحة. تنظر في كل الأمكنة بضياع. سيل من الدموع يخط وجهها باستمرار. ومن حين لآخر تتناهي إلى مسمعي تنهيدتها العميقة والمتقطعة، مشفوعة بجملة لا تبرح لسانها: ماذا فعلنا يا الله؟ وعواء الذئاب الذي أصبح قريبا من القرية بعد أن كان يأتي من بعيد. الذئاب أصبحت قريبة هذا يعني أن الخراب كان كل يوم يكبر قليلا ويقترب.
عندما دخلت أمي عند الحاكم الفرنسي سألها، وكان الحركي علي لكور يقف على رأسها ويترجم كلماتها
– زوجك هرب من السجن يا مدام ونحن مثلك نبحث عنه. إذا رايته اخبرينا ونحن سنأتيك به.
– كيف تمكن من الهرب وهو مسلسل وفي زنزانة لا أنفاس فيها. ثم لماذا اختفى هو وصديقه بوزيان المتهمين بتهريب الأسلحة؟ هل يعقل يا سيدي.
يترجم علي. ينسى أو يحور بعض كلمات أمي. أصححها. مثلا مسلسل enchainé ترجمها طليق اليدين. ثم لماذا هرب وهو في مكان مثل القصر يأكل ويشرب كما يشاء. انتفضت في مكاني
– سيدي الحاكم ماما لم تقل هذا.
بقي الحاكم صامتا لبرهة من الزمن. قبل أن يأمر علي بالخروج.
ثم التفت نحوي
– هل تعرف الفرنسية.
– أدرسها منذ سنتين يا سيدي. وأكتبها. أمي تفهم لكنها لا تتكلمها جيدا. كل ترجمته لم تكن صائبة. أمي تريد أن تتأكد فقط من أن والدي لم يقتل وأنه بخير.
قام الضابط ونادي علي من جديد.
دخل منكس الرأس. لاحظت أن شعره بدأ يتساقط في وقت مبكر، ولسانه زاد ثقلا.
– قل لهم ما تعرفه عن حالة أحمد.
– هم لا يريدون أن يعرفوا الحقيقة وهي ظاهرة للعيان. فقد هرب هو وصديقه إلى بحر الغزوات ويبدو أنهما رتبا عميلة الهروب. لأننا مسكنا من سهل لهما عملية الهرب وقد سجناهم. واغلب الطن يكون الآن في سفينة صيد الصيادين المتعاطفين معهم بالخصوص جماعة 36 كما يسمون أنفسهم لا أعرف لماذا.
– جماعة الفارين من حرب فرانكو.
تنظر أمي إلى الحركي علي لكور، تتأمل عينيه وتفاصيل وجهه وتحاول أن ترى ما يخفيه وراء جلد الافعى الأملس من نتوءات وقهر. يهرب بعيدا فتتأكد من أنه يعرف الحقيقة لكنه يخفيها.
– أنت تعرفه يا علي، هل تظن أن أحمد قادر على الهرب. هل تظنه يملك تلك الطاقة الجبارة التي تجعله يهرب بعيدا نحو بحر الغزوات ويعوم طويلا حتى يلحق سفينة الصيادين التي تقوم بتهريبه باتجاه إسبانيا؟
ينظر الضابط إلي. اترجم باحثا عن كلماتي.
– Tu le connais, Ali, penses-tu qu’Ahmed peut-il (puisse) s’échapper? ? Pensez-vous qu’il a la force de fuir vers la mer et de nager longtemps pour attraper le bateau de pêcheurs pour le faire passer vers l’Espagne ?
– Haaah, quel bonheur. Enfin quelqu’un, tout petit, qui parle correctement le français et le pratique. Alors dis à ta maman ceci: On a que faire de son mari. Il s’est enfui vers Ghazaouet. (أية سعادة أخيرا طفل يتحدث الفرنسية بدقة ويمارسها قل لأمك إذن هذا: لا شأن لنا بزوجها. لقد هرب نحو ميناء الغزوات.)
هزت أمي رأسها.
– فهمت.
وكان عليها أن تبحث عن مصدر آخر، لكنها على الرغم من إرادتها، كانت أمي على يقين من أن والدي يكون قد قتل تحت التعذيب هو وصديقه لأنهما كانا يحملان على ظهريهما تهمة تهريب الأسلحة من الحدود المغربية الجزائرية على الرغم من خطي موريس وشال. يقال إنهما ابتدعا طريقة لتمريرها. يغرسان ماسورتين من الألومنيوم الخفيف، من الجهتين ويربطانهما بحبل يمر فوق الأسلاك الشائكة دون أن يلمسها، ثم يضع سلسلة الأسلحة على الحبل من خلال بكرة صغيرة فتنزلق بالاتجاه الثاني، فيستقبلها من ينتظرها يأخذ ماسورة الألومينيوم الخفيفة ويغيب في الخلجان والغابات وبين الأشجار. الشيء نفسه يقوم به من هو في الجهة الثانية.
خرجنا، تأملنا الشمس الربيعية التي كانت تعمي العينين. على الرغم من أن جو البارح كان معكرا وعاصفا أحيانا.
لم أستطع أن أنظر إلى وجه أمي.
















Your Page Title