أثير – الروائي الأردني جلال برجس
أنفق الكاتب العربي وقتاً طويلاً يحلم بفضاء من الحرية لها أن تجعله منعتقاً من أي قيد وهو في لحظة الكتابة، وفي غمرتها الاستثنائية، وعاني ردحاً من الزمن كل أشكال الرقابة التي ذهبت به إلى اعتناق جهة من جهات الرمزية، واستلهام التاريخي ليُسْقَطَ على الآني المترع بأزمات عديدة، وإلى شكل غير مكتمل العناصر من الأدب الساخر، كل ذلك اجتناباً لكل اشكال السلطات التي لا تقبل النقد، في مجتمع لم يؤسَّس على وعي نقدي ينسحب على كل تفاصيل عيشه اليومي. فحظيت المكتبة العربية – رغم جرأة البعض الذين أخلصوا لرؤاهم-بالعديد من الإصدارات التي جاء جزء منها على أهبة مواربة لا تفي بالغرض، وجاء آخرٌ منها مبتعداً عما يشغل ويوجع البال العربي المأزوم، والذي يقف قبالة آلات إعلامية تنقل له، وكأنها تناكفه، زمن التحرر الأوروبي بكل عناصر الحرية فيه، وبكل سمات التطور، إضافة إلى ما يصل هذا الكاتب سراً أو علناً، من كتب لم يكن كاتبُها مكبلاً بما يعيقه عن قول رأيه دون مواربة أو تلميح عن بعد.
ما تزال الرقابة بكل أشكالها المتناسلة تهشم حياة الإنسان في العالم العربي، وتحجب عنه حلمه وتوقه للعيش حرًّا، ومدافعًا عن إنسانيته وحقه في المسير والتفكير، وأزعم انطلاقًا من هذه المكيدة البشرية أن سياج الرقابة المعدني الشائك هذا يؤجل في كل كاتب عربي روايته التي يود فيها قول ما يريد خارجًا على كافة السياقات التي رسمت له منذ الوعي الأول.
وإلى جانب أشكال الرقابة المعروفة هناك شكل آخر أكثر خطورة، يهدد رغبة الكاتب وقدرته على التعبير الحر المنعتق، ألا وهو الرقيب الذاتي، الذي لا يمكن أن يكون إيجابياً إلا إذا جاء كنتيجة طبيعية لبيئة إيجابية، أسست على عناصر حرية حقيقية.
وقد تشكل هذا الرقيب من جملة من العناصر على مدار التاريخ العربي، الذي شهد كثيراً من مظاهر الوقوف بوجه الحريات بمختلف أشكالها، إلى أن أدت تلك السلسة من الإجراءات إلى أن أخذ العربي يتعامل مع هذا الرقيب الداخلي بسهولة خادعة، بل يشعر-موهوماً-أنه في حالة تصالح فريد معه، وأنه لا يشكل له أي عائق، وأن ما يقوم بمنعه رضوخاً لصوت ذلك الداخلي، ما هي إلا أشياء تستوجب المنع وعدم الخوض بها.
وتتجلى خطورة الرقيب الذاتي في أن البعض لا يقعون في صراع مع رقيبهم هذا، وذلك يأتي من باب عدم ذهابهم في الأصل إلى الفكرة المغايرة والجريئة في قول المسكوت عنه، ولهذا يعهدون بكتاباتهم إلى مواضيع لا تؤدي إلى الجدل. أما البعض الآخر فيقعون عادة في صراع مع هذا الرقيب، ابتداء من تأمل فكرة ما سيكتبون عنه، ومروراً بتجسيد الفكرة، وانتهاء بإطلاق كتبهم. هنالك منهم من حسم الصراع وتجاوز طروحات وأوامر هذا الرقيب، وتحملوا نتائج ذهابهم إلى حريتهم. والبعض الآخر منهم من اتخذ الحل الوسط والذي يرضي من جانب ما ما يريده هذا الرقيب، ويرضى نزعتهم نحو الحرية من جانب آخر، غافلين بذلك عن أن نتائجهم الإبداعي هذا أصبح ككائن أعرج لن تستقيم خطاه، فلا هو بالذي صمت، ولا هو بالذي امتلك جرأته وقال ما عليه أن يقال.
أعترف أن بي رواية مؤجلة وتكاد تخز روحي كشوكة حولية في باطن الفم؛ رواية أكتبها بوعي متمرد يقلب جوانيته وينثر ما فيها على العلن، بكل شكوكها، وقناعاتها، وتناقضاتها، ورغباتها، واحتجاجاتها. لم أخش في حياتي الرقابة الرسمية ولا أقيم وزنًا لها، لكنني منذ شرعت بالكتابة وأنا أحاول قتل الرقيب الذاتي الذي أراه ككائن متجبر يقف بباب الفم وينتقي كلمات دونًا عن غيرها لتحلق في الهواء. منذ نصي الأول وأنا في حالة صراع معه، وأعتقد أنني غافلته وقلت بعضًا مما أريد مع قناعتي بأن هذا ليس كل ما أريد قوله. لكن ما يطمئنني أنني ما زلت أحاول، وأعتقد بل أجزم إن نجحت بقتل هذا الشكل البغيض من الرقابة سأكون أكثر حرية فيما أقول، وسأقف عند النافذة التي ينظر منها الروائي نحو الشارع فأنظر إلى نفسي وأحدق بها مليًّا. ينظر الروائي نحو الشوارع فيكتب، وينظر الشاعر في المرآة إلى نفسه ويكتب. أريد أنظر إلى نفسي عبر نافذة الروائي وأكتبني. هل أنا حرّ؟ نعم أنا حر ما دمت أصوّب سلاحي نحو هذا الذي يقف في دهاليزي الداخلية، مع درايتي بكيفية تشكله مع مرور الزمن العربي. لا ضير لو فشلت مرات بأن أرديه قتيلًا، لكني حتما سأنجح بتخليصي منه، بتخليصي مني.