فضاءات

ماذا تحمل المجموعة القصصية “طرائد الذاكرة”؟

(jamilaalabri)

أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري


أعرفه منذ مطلع الدنيا، فتى تجتمع فيه خصال عديدة، هو شاعر وقاصّ وناقد ومشاكس ولطيف ..ومحبّ للحياة ..، أعرفه ولم أكتب عنه إلى الآن ..برغم إصداراته الكثيرة وحروبه الشخصية مع الوقت والناس والكائنات اللغوية ..، ويبدو أنّني مستعدّ لخوض غمار إحدى تجاربه الإبداعية، وأعني القصة ومغامرته السردية تحديدا ، إذ بين يديّ اليوم مجموعته القصصية ” طرائد الذاكرة ” ..

إذا أردتَ أن تبحث عن حليف للمرأة فاقصد الشعراء ، فهم أقرب الخلق لهذا الكائن الرقيق المغبون منذ دهور…وأقصد طبعا : الأنثى الإنسان ، لذلك حين انطلقت في قراءة القصة الأولى من مجموعة ” طرائد الذاكرة ” والتي عنوانها ” الثأر ” أحسست بمنذر العيني يتلبّس بالشاعر وهو يكتب قصته ، ففي هذا المتن السرديّ الأوّل يأخذنا إلى بيت امرأة أرملة لها ولد وحكايات تسردها عليه ليكبر وينجح ويصبح رجل القانون ..فيأخذ حقّها من ” أخيها ” الأكبر الذي اختلس رزقها وإرثها وكاد أن يُفسد زواجها بالمرحوم ، وتنتهي القصة بهذه الخاتمة التي أشفّ منها رغبة السارد في التشفي من الأخ الظالم :
” بعد المداولة التصريح بالحكم : حكمت المحكمة حضوريّا باسترجاع السيدة الزهرة جميع أملاكها من أخيها الأكبر عبد الجبّار وإثباتها بدفتر خانة “


في قصة أخرى من ضمن قصص المجموعة وعنوانها يفشي بمصير الشخصية الأولى التي ستلاقي قدرَها ، وهو : ” الفُراق ” ، أمّا خلاصة القصة فانفصال قسريٌ عن حبيبة في غاية الجمال وسقوط في هوّة الكحول قصد النسيان ..فوجد الموت في انتظاره :
” من الغد كان الرّذاذ نحيبا على التّابوت و مغسلة للغفران حين كنت أحمله على كتفي وأتذكّر وجه الفتاة ..، الفتاة التّي طلّقها دون رضاه..، كان الوقت يصلب دقائقه على أعمدة الحيّ ويسفح دم ساعته على ظلّي التاّئه.
كان بياض الكفن تلويحة السلّام الأخيرة من الأعماق ..وداعا صديقي.”


انتقيت قصة ” ساعة الطلق ” لما فيها من ظلم اجتماعي تمارسه فئة من المجتمع على نفسها وعلى مجموعة هامة من الناس ، المتن السرديّ يقصّ علينا حكاية المرأة المؤمنة بالأولياء الصالحين ..والقرابين التي تقدّمها لرضاهم وتحقيق طلباتها ، وإن كانت كلّ أمنياتها ليست مثالية بل كانت ترضى بالقليل القليل …حتّى الزوج يصبح ” مكتوبا ” أيّ قدرا منزّلا ، وقد اخترت هذه الفقرة من خاتمة القصة لتشعروا بالعذاب والألم والوجع الذي ألمّ بالمرأة :
” عُواءً أجوفًا كانت رائحةُ الطّلقِ. المرأةُ تومئُ للنساءِ أن يخرجنها من كابوسها الفظيعِ. اللّهُ ينتظرُ آخر الدربِ والملائكة حولها قابعات. مثلَ فراشة طارت المرأة من الغرفةِ إلى بارئها وآثارُ الضّرب على كتفها دوائرً زرقاء قد زيّنت الجناحين . من بعيدٍ في سمائها السّابعة اجترعت مرارة لقائها الأوّل بهِ.


حينَ دُفنتْ في جبّانةِ الغرباءِ لم يصدّق أحد أنّ النّفاس كان ولادةً وموتا في آن. كم تحسّرَ المسكين حينَ لدغها على بطنها الملآنة إثر سكرته المعهودةِ. لم تُسعفها طرقات الحماة هذهِ المرّة و لا توسُّلاتِ أشباحِ الغرفةِ .

…..صورةُ الطّاهر الحدّاد على صفحة الحوادثِ ذرفت دمًا. الجريدة يومها بيعت آلاف النسخ ..، الحدث لم يكن هيّنا على القارئ..”

مجموعة ” طرائد الذاكرة ” ليست لقتل الوقت كما يقال ، إنّنا في حضرة كاتب لا يلهو بالكلمات ولا يرّصفها جملة إثر جملة ، بل إنّ المجموعة مأخوذة من لبّ الواقع المعاش وكم نحن في حاجة ماسّة لمثل منذر العيني ..، قاصّ يكتب ما يراه وما يسمعه وما يستشفّه من حياة الناس وهمومهم ..، يكتب فَيسردُ جانبا من القصة ويتكئ على الحوار في أكثر من وضع ..ويترك لخياله أن يفعل ما يشاء ..، هذا الجانب الحكائيّ في صديقنا الذي قمنا بإطلالة خاطفة لذاكرته وطرائده المخفية والمعلنة ، أمّا الوجه الآخر وأقصد الشاعر القدير المنزوي في جانب من شخصية هذا الأديب ..، فسنخصّص له ركنا آخر لنتذوّق منه ما أصدره من شعر طيلة معرفتي به …

Your Page Title