أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
مرّة أخرى أسقط في فخّ كتابات هذا المغربي المتداخل المتشعّب الكاتب الشاطب ..هذا السابح في خياله المفتوح على مصراعيه ..، ماذا يريد أنيس الرافعي بهذا الفيض الاستثنائي في الكتابة ..وهذه الهلوسة المدروسة وهذا الخبل المقيّد بالعقل ..؟، لست أدري ما يريدُ..ولكنّي شغوف بكلّ ما يكتب وهذه المرّة وقعت على مجموعة ” الحيوان الدائريّ ” التي بدأها هذا المشاكس الكبير بمحاولة كتابة نصّ في سيارة عالقة في طريق عاجّ بالسيارات والشاحنات والحافلات ..أيّام أزمة كوفيد ..، وتحديدا في نصّ أوّلي بعنوان
” الأيام الواقفة ” ، وبعد أن يهيم على وجهه متتّبعا شطحات الكاتب الذي فيه ..، وبعد أن يركل ما يشاء من المعاني ويعبث كطفل مهووس بتفتيش بكلّ شيء في طريقه، بعد كلّ هذا التنكيل بالقارئ المستميت في تتبّع القصة ..، يقول على لسان السارد :
” كنت على وشك وضع نقطة النهاية لهاته القصّة القصيرة الشائكة، حينما انخطف الضوء في لمحة عين من لوح هاتفك النقّال، تبّا..فتلكم بعض الأضرار الجسيمة التي يسبّبها الاستعمال المفرط للبطّارية، لكن ما هو غير متوقّع، هو أنّك لمّا أنعشت البطارية بشاحن السيارة، لقيتُ بأنّ النّص من ألفه إلى يائه قد امحّى نهائيا من الشاشة، وطارت ” بركته ” إلى غير رجعة “
” هولوجرام ” نصّ آخر يواصل أنيس الرافعي فيه لعبته القديمة المتمثلة في استخراج المعنى من المعنى ، فيأخذنا إلى بيت صديق ثمّ يغلبه النوم ويحلم وهو في سرير مضيّفه ويرى كلّ شيء أراده خياله الخصب المعطاء ..، فمثلا يخرج من هذه الفوضى المحكمة : الكتبي المعروف يوسف بورة ..ويتطرّق إلى كتاب إلى سوزان سونتاغ وإلى موضوع
” تخيّل الكارثة ” وأشياء سريالية ..يسقطها على النصّ الذي أكاد أقول عنه ” التام لولا خوفي من الـتأويل ..” ..، والمضحك في هذا كلّه أنّ السارد يجد الوقت للفكاهة داخل هذا النصّ الفريد ..فيذكر صديقا آخر مقيم في مدينة ” نانت ” وقع في الفخّ تحت ظروف وأحكام ” الكوفيد ” فظلّ في المغرب وسمّاه على سبيل الفكاهة ” الجالية المغربية العالقة بالمغرب ” خلاصة القول إنّه أنيس الرافعي : معتوه من يستدلّ به أو يتبعه في مسلك من مسالك المعاني ..، إنّه يخلق شيئا جديدا ..ونوعا آخر للأدب الرافض للمهادنة ..، أدبا يتفوّق على التصنيفات..، أدبا يفوز بالجوائز والتكريمات والتتويجات ..ومازال مازال كما يقول إخوتنا الجزائريون …
أعتقد أنّ مقالات بلا عدد ..لا يمكنها النفاذ إلى عوالم أنيس الرافعي ..هذا القامة المتجذّرة في ساحة السرد المغربي والعربي والعالمي ( لم لا ..؟، فقد فتح أبوابا على العالمية )، لذا سأكتفي بنصّ أخير من هذا المتن الصادح بحبّ الحياة في زمن الكوفيد، هذا النصّ عنوانه ” هاو هاو هاو هاو ” ويتحدّث فيه السارد عن كلب ركض مسافة تجاوزت خمسين كيلومترا خلف سيارة إسعاف ليلتحق بصاحبه المريض بكوفيد ..، وبعد أن يعرض علينا أنيس الرافعي (مجبرا لأنّ القصة استوجبت ذلك )، بعد أن يعرض مخزونه المعرفي في معرفة قصص الكلاب وأساطيرهم ..، يلتمس من الكلب الوفيّ أن يلبّي طلبه وأمنيته :
” ..لذلك أودّ بجميع عروقي وعقوقي أن تكون شفيعي لأحلّ الآن بأيّة طريقة ممكنة ضمن دورة حياة سابقة في هيئة كلب، وكذا كي تكون معيني كي أرجع بعد موتي في جسد كلب من معدنك النفيس…………….
بعدما تخبّطت طويلا وسقطت عميقا في رتبة أدنى اسمها : إنسان “
ماذا أقول ..الكتاب أمامي والنصوص كثيرة والمعاني بلا حصر ..، ولكنّي مجبر على ختم هذه المقالة التي تريد فتح كوّة في الواجهة السردية لأنيس الرافعي ..وهي تزداد كلّ يوم علوّا وبهاء وتألّقا ..، أقول في النهاية ..أيها القراء لا تفوّتوا فرصة قراءة هذا العبقريّ …