أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
أحد المتلّبسين بالحكايات ..، يخرجك من قصّة ليدخلك في أخرى، مولع بالسرد ومغرم بالتفاصيل ..إنّه موسى الثنيان أحد الكتّاب السعوديين ..، قادني إليه زميله الكاتب حسين سنونة وقدّم لي كتابه المعنون ب ” سوابيط مظلمة ” ، هذا قبل أن أتعرّف على القاصّ وأدخل في مناخه السرديّ ..، وها إنّي أطّلع على محتوى كتابه.
القصّة الأولى ليست سوى عنوان المجموعة القصصية، وهي طويلة نسبيا بمقارنة القصص الأخرى ويتطرّق فيها السارد إلى حكاية حبّ عويصة وصعبة ، وخلاصتها وقوع فتى في الهوى، لكنّ المشكلة تكمن في أصله فهو من سلالة عبودية رغم انتهاء الرقّ في السعودية في سنة 1962 ميلادي، يعشق بنت (سيده ) الذي هو بمثابة عمّه ..، ويتطوّر الأمر وتتعقد المسائل ويخطب البنت رجل ثريّ في الحيّ ..ولا يجد الفتى مخرجا لورطته ..، ويختتم السارد بالثأر لنفسه أو منها ومن حبيبتها .. من طائر العقعق الذي طلبته منه الحبيبة قبل زواجها ..ذلك الطائر الصعب الذي وقع أخيرا في فخّه ..يقول السارد :
” اقتربتُ منه ورفعت عنه المقصلة، وما أن خلّصته من الفخّ حتّى طار سريعا، ثمّ استقرّ على غصن شجرة النبق وراح ينظر إليّ بكثير امتنان وطار بعيدا “
ها إنّه في قصة ” حكاية فزّاعة ” يعاود التلبّس بشيء ما ..وما هذا الشيء ؟ إنّه فزّاعة الحقل المتجذّرة في التربة ..المستسلمة للعصافير المترهلة مثل ثيابها القديمة ..، يأخذنا موسى الثنيان إلى محاولة التكلّم باسمها وتخيّل أوضاع تمرّ بها أو عليها، الفكرة جميلة وتعكس قدرة السارد على الحكي وتصوّر أنّ هذا الشيء ..له روح وعقل ..، يسأم الوقوف في مكان واحد ..، ويتذّمر من عدم القدرة على المشي ..، يريد أن يفعل كلّ شيء ..، وخلاصة القول كما قالها السارد في النسيج اللغوي للنصّ ..، لم يبق لي سوى الوطن الحقل، صراحة لقد أعجبتُ بالفكرة فهي فريدة خاصة كلما اقتربت في السرد ..من الإنسان المعاصر الذي ملّ كلّ شيء ..وصار مثله مثل فزّاعة في حقل الحياة ..، يقول الكاتب السعودي موسى الثنيان بلسان الفزّاعة المنزوعة ..متأسفا على قلعه من مكانه وتبديله بفزّاعة جديدة :
” ما هذه الحريّة التّي حرمتني من كلّ أصدقائي، كنتُ مخطئا في فهم معنى الحريّة، فما أنا فيه إلاّ قبر يقصيني عن النور وعن الوطن…
فُتح الباب فإذا بي أرمق من بعيد مجسمّا لفزّاعة أخرى قد نُصبت توّا، كانت بقبّعة حمراء صوفية وثوب أنيق، بدتْ الفزّاعة الجديدة مسرورة بالمكان وبالطيور والعشب، بينما أنا غرقت في الظلام ”
ننتقل هذه المرّة إلى قصة بعنوان ” حريّة نورس ” فبرغم بساطتها وبراءتها وعفويّة السرد فيها ..، شدّني ما قاله المتكلم حين أطلق النورس وأعاد له حريّته المسلوبة ..، فقد تساءل هل سوف يذكره إن رآه مرة أخرى ..، بصراحة أقول له : ليس لأنّه حيوان سينسى المعروف بل لأنّ نكران الجميل عادة قديمة وخصلة من خصال الأحياء جميعا ..، أعمل الخير وانسه وزد سعة الأرض ..، يقول موسى الثنيان :
” حين وصلت إلى البحر وكان المكان خاليا فترة الظهيرة سوى من حبيبين يجلسان أمام البحر، فتحتُ الصندوق الورقي ومددت يدي إلى داخله وأنا أتطلّع إلى تلك اللحظة ، فيما كنتُ أحمله نقرني النورس في كفّي فانفلت من بين أصابعي محلّقا في السماء، قلت في نفسي: قد كنتَ بين يديْ سجّانك منذ قليل ولم تنقره، أمّا أنا فتنقرني ..”
تضم مجموعة ” سوابيط مظلمة ” ثلاثة عشرة نصّا قصصيا ، لكاتب صرت أعرفه لماما بعد إطلالتي على متنه السردي ..وأعتقد أنّ موسى الثنيان صوتا قويّا وقادرا على إثبات قدراته القصصية في المشهد السعودي الذي دأبت على الاطلاع عليه ..، وأرى أنّ حركة الأدب في الخليج عموما تشهد طفرة عارمة منقطعة النظير ..