أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتربوية في مجلس الدولة
مع بدء العد التنازلي للعودة إلى المدارس، ومن منطلق أنه كلما استطاعت المدرسة أن تهيئ بيئات التعليم والتعلم لطلبتها منذ وقت مبكر لتبدأ مع بدء العام الدراسي بحيث تصبح بيئات جاذبة، تبني سياسات تعليمية أكثر اتزانا وتناغما مع المدركات النفسية ومفاهيم الاحتواء النفسي وتعزيز القناعات الفكرية الإيجابية لدى الطالب سواء في عمليات الاستعداد لانطلاقة جادة للعام الدراسي، وفي طريقة استقبال الطلبة، وتوفير البيئة الآمنة والمريحة لهم، وجاهزية الصفوف ونظافتها، وتوفر الكتب الدراسية، واكتمال المعلمين، والتزام وسيلة النقل بنظم الأمن والسلامة وفق المعايير، بحيث يجد كل طالب له موقعه ومكانه المناسب، وأن يجد الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة والذين لديهم بعض الصعوبات الموقع المناسب لهم في بيئة المدرسة، كلما انعكس ذلك على حياة الطالب الدراسية على مدى الفصل والعام الدراسي، وأدرك فعلا أن المدرسة من خلال أعضاء الهيئة التعليمية والوظائف المساندة والفئات الأخرى العاملة بالمدرسة تعمل كفريق واحد في المحافظة على سقف التوقعات عاليا، وتقدم لأبنائها نموذجا فريدا في العلاقات الإنسانية وإدارة المشاعر والاحتواء النفسي والشعور الجمعي وترقية الذوق العام، وتوفير بيئة تعليمية سمتها الابتسامة والفرح والقيم والنضج والاستمتاع والترويح والفرص.
لذلك نعتقد بأن الاحتواء النفسي وتأصيل الأبعاد النفسية في بيئة التعلم وتعميق حضورها في كل تفاصيل الممارسة التعليمية ركن أساسي لنجاح التعليم، ومدخل إستراتيجي لضمان تحقيق الانضباط الدراسي والالتزام السلوكي للطالب، وعندما تفتقد بيئات التعليم والتعلم وثقافة المدارس لهذا العنصر في عمل منظوماتها الداخلية وأساليب التعامل والعمل والإجراءات المرتبطة بتنظيم بيئة العمل فإن نتائج ذلك ستنعكس سلبا على تعلم الطلبة وقناعاتهم حول ذواتهم وانطباعاتهم حول التعليم والمدارس، ولهذا فإن تناول قانون التعليم المدرسي الصادر بالمرسوم السلطاني (31/2023) البعد النفسي من خلال جملة المفاهيم بشكل صريح أو ضمني الصريحة أو الضمنية وما يرتبط بمفهوم الصحة النفسية في بيئة التعليم والتعلم من مستجدات ومفردات باتت ذات أهمية في بيئة العمل كما هي ذات أهمية في بيئة التعليم والتعلم وبشكل خاص ما تحويه من تفاعلات وتنوع في الثقافات والأفكار والقناعات والخبرات ويعيش الطلبة خلالها ظروف مختلف وبيئات متنوعة، مثل: إدارة المشاعر والصحة النفسية والعادات الاجتماعية وعادات الدراسة في بيئة التعليم والتعلم وغيرها كثير، إذ يحمل دلالات عميقة في القيمة المضافة للأبعاد النفسية في حياة الطالب، والعلاقة العضوية التي يؤصلها الاحتواء النفسي للطالب على مستوى تقدمه الدراسي وقدرته على التكيف مع قواعد السلوك وإستراتيجيات الأداء وأجندة العمل والتوجهات والإجراءات الإدارية والتنظيمية والفنية التي ستتخذها المدرسة لضمان تحقيق الأمن النفسي والجسدي والصحي والفكري للطالب، والاستخدام السليم لزمن التعلم، إذ كل ذلك مرتبط بكفاءة خيوط التواصل ومتانة جسور التكامل واستشعار الجميع لحس المسؤولية وأهمية رفع الروح المعنوية التي تؤسس في الطالب فقه التغيير وثقافة الالتزام وتعزز من فرص التعلم الذاتي لديه وبذل الجهد وأداء الواجبات المنزلية واحترام زملائه وحسن انضباطه.
ومما يؤكد أهمية البعد النفسي في تشكيل شخصية الطالب وبناء مسار تعلمه، أن قانون التعليم المدرسي وفي أحكامه العامة نص في المادة (2) “الغاية الكبرى للتعليم المدرسي في سلطنة عمان تحقيق النمو الشامل والمتكامل لشخصية المتعلم في جوانبها العقلية والعاطفية والروحية والجسدية “، وجاء في مرحلة التعليم المبكر في (23) “يراعي التعليم في مختلف المراحل بعض السمات المهنة التي ترتبط بها كل مرحلة” فالمادة( 23) أشارت في التعليم المبكر “أن يراعي توفير بيئة دراسية مناسبة تهيئ للطفل تربية متوازنة، تشمل الجوانب الشخصية والجسمية والذهنية والدينية والاجتماعية، وتساعده على تكوين العادات الصحية السليمة وتنمية علاقاته الاجتماعية وتعزيز الاتجاهات الإيجابية والارتباط بالمدرسة”، وجاء في حقوق الطلبة في المادة (44) تعمل الوزارة على ضمن حقوق الطالب بـ ” التعلم في بيئة مدرسية آمنة وجاذبة” بل جعل القانون حصول الطالب على الخدمات اللازمة لتعزيز الصحة النفسية حق من حقوقه المشروعة حيث ورد في المادة ( 45) ” تعمل الوزارة على توفير الخدمات اللازمة لتعزيز الصحة النفسية والبدنية والاجتماعية وخدمات التوجيه والارشاد المهني للطلبة ” ؛ فإن ما تحمله هذه النصوص التشريعية من دلالات تأكيد على أهمية حضور البعد النفسي في البناء التعليمي والممارسة اليومية منطلقا للتكاملية التي أشار إليها المشرع في المادة (2) بشأن غايات التعليم المدرسي ، والتي تمثل فيها الابعاد النفسية والصحية والصحة النفسية للطالب أهمية كبيرة كونها المنطلق الرئيسي الذي يوجه بوصلة الحياة التعليمية للطالب ويستنطق خلاله القيم والمهارات ، ويعزز من فرص تعلمه ورفع سقف التوقعات التعليمية لديه ، وبناء روح إيجابية وتأصيل دافعيته نحو الدراسة وعاداتها السليمة.
من هنا فإن مسؤولية المدارس اليوم وهي تستعد لبدء عام دراسي جديد أن تهيئ الطالب نفسيا وفكريا ووجدانيا لهذا الامر، من خلال جملة الموجهات من بينها:
▪ تقريب مفهوم التعليم المنتج في فقه الطالب كمدخل لضمان الشعور بالأمان القادم، حيث يصنع التعليم المنتج للطالب فرص أكبر للتعلم وتوظيف المهارات والقيم التي اكتسبها من المواقف التعليمية والمرافق المدرسية، الصف الدراسي ومرافق المدرسة والمختبر ومراكز مصادر التعلم لتصبح ذات قيمة في حياة الطالب الدراسية، خاصة وانهم مقبل على مرحلة دراسية تحمل الكثير من الطموحات والمتغيرات والغايات والأهداف، كما تتخللها الكثير من التساؤلات والاستفسارات والتي تتطلب من المدرسة الإجابة عليها، لتشكل التهيئة النفسية خيوط اتصال تؤسس في الطالب روح التجديد وفرص الاختيار ومحطة لالتقاط الأنفاس والاستراحة النفسية، عندها تبدأ تلكم التراكمات التي تكونت لدى الطالب حول الوظائف والمستقبل قبل دخوله المدرسة بالانقشاع لكون المدرسة استطاعت من خلال ما اتخذته من إجراءات ثابتة، وأساليب متنوعة، وأصلته من فرص التمكين الذاتي للطالب، والثقة في قدراته والحوار معه وتعظيم الاستفادة من أفكاره وأطروحاته ومنحه فرص التعبير عن ذاته والايمان بقدراته، لتنعكس إيجابا على استشعاره بان المدرسة بيته الثاني وأن أعضاء الهيئة التعليمية يشكلون أسرته التي تحافظ عليه وتحميه وتوفر له سبل الأمان والراحة والاستقرار الفكري.
▪ عندما يشعر الطالب بأن كل شيء في المدرسة يسير وفق تخطيط مريح وتنظيم دقيق وإدارة واعية ويتجه إلى استقرار، ويتم التعامل مع برنامج اليوم الدراسي وأجندة الفصل الدراسي بكل مهنية من خلال قواعد واضحة وإجراءات ثابتة، ومسارات حكيمة، وبصمت يحمل معه الإنتاج والإنجاز، تقيها التخبط والعشوائية وغياب الفريق الواحد وكثرة التصادمات بين الإدارة والمعلمين، وتتم الإجابة عن تساؤلات الطالب بكل أريحية وشفافية ورقي في التعامل والاستجابة لمتطلباته والايمان بأهمية وجوده وموقعه الذي يحظى بالتقدير والاحترام، فإن ذلك سيصنع في ذات الطالب مساحة أمان متجددة، وراحة نفسية وفكرية مستديمة تصنع لشخصيته التعليمية قوة تنعكس على اتقان مسؤولياته وتقدير واجباته.
▪ جاهزية المدارس للإجابة عن التساؤلات التي تدور في ذهن ولي الأمر حول تعلم أبنائه وتوفير الأمان والسلامة لهم، وأهمية تحقيق الشراكة والتكامل والشفافية والوضوح مع ولي الأمر حول ما يجري في المداس من استعدادات لاستقبال الطلبة، ووضع ولي الأمر في صورة العمل الفعلي المنجز، والجهود الفعلية المبذولة وجوانب النقص سواء في الكتب أم المعلمين أم الحافلات المدرسية وغيرها، وآلية سد النقص الحاصل والوقت المحدد لها، والجهود المرتبطة بتوزيع الحافلات المدرسية ومدى كفايتها للطلبة ومستوى الأمان فيها، والروافد التي تغذي المدارس من الأحياء السكنية، والبرنامج المعتمد الذي يتم في إطاره استقبال الطلبة، واستقرار توزيع الطلبة في الصفوف والشعب الدراسية، ومراعاة جملة من العوامل الداعمة لتحقيق تعلم جيد بعيدًا عن الضوضاء في حالة وجود عمليات صيانة بالمدرسة، ومدى اكتمال الهيئات التدريسية والإدارية بالمدرسة لجميع الصفوف والمواد، نمط الخطاب اليومي الذي يمثل فاتحة الأمل بقادم جديد، ثم أساليب التوجيه وآليات العمل وطريقة المدرسة في تنفيذ مواد قانون التعليم المدرسي وجملة الإجراءات والتعميمات الصادرة بشأن الانضباط الدراسي والالتزام السلوكي للطالب.