فضاءات

رسالة من امرأة لم تلد أبدًا

أثير- مكتب أثير في سوريا
إعداد: الأديبة والكاتبة غادة عماد الدين العيسى مديرة المسرح القومي في طرطوس


ولدي الحبيب..
كم كنت مولعة باختيار الألوان التي تليق بطفولتك، لم أكتفِ باللّون الأزرق الذي يقولون عنه إنه اللّون المخصص للرّجولة المولودة حديثاً، خرجتُ عن القاعدة وألبستك كلّ الألوان، لأني أحب الطبيعة، فكيف إذا كانت تتجمل وهي تنسدل على جسدك..
بنيّ الغالي لم أرفع صوتي يوما وأنت تخالف تعليمات أمك، وتخرق هيبة جارنا العجوز وأنت تمشي منحنياً على عصا.. أذكر يومها أني جعلته ينظر إلى ناحيةٍ أخرى واحتويتك بكلّ شغبك الطفوليّ، وأدخلتك غرفة حناني لأعلمك درساً قاسياً على طفولتك، أذكر يا بنيّ أني قلت لك: هذا العجوز هو والدك بعد بضعِ سنين، لازلت أذكر لحد الآن نظرتك المشتعلة استنكاراً، أبي ىسيصبح عجوزاً!!
لم أخفّف عنك بل أكملت.. وأنتَ يا ولدي أتمنى أن تصبح عجوزاً، ارتعدت كلّ خلايا جسدك استنكاراً… لكنّي تابعت كلامي.. من يهبه الله الحياة ويعمّر طويلاً سيصبح عجوزاً كجارنا المستند إلى عكازه، ولا أعتقد وقتها أنّك ستكون سعيداً لو وجدت طفلاً يسخر من عمرك، ولا تنسى يا ولدي أن العجوز لديه خبرات ودروس علّمتها له الحياة لا يعلمها الصغار.
وتركتك مع ميزانك..الذي صنع لك ميزاتك
بُنيّ…لم تكن تحزنني علاماتك المتدنية أحيانا، كنت أراها خير معلم، لتنهض من جديد لأني لم أعلمك الاستكانة أو الركون إلى الفشل مهما كان بسيطاً…وكنت خير تلميذ
أيّ بُنيّ…كان يرعبني مرضك ويقضّ مضجعي، ألا تذكر أن حرارتي كانت ترتفع مع حرارتك، كنت أحضنك والطبيب يغرس الإبرة في جسدك، والحزن والوجع يعتصرني ويطيح بكلّي، فتخيّل الألم لطفل هو قلبي، أصعب من الألم نفسه
ولدي الحبيب …يوم يسألونك أتحبّ أمك أم أبيك…كانت الإجابة مرهقةً لخيارٍ لم تكن تعلم أنك تستطيع أن تخرج عليه…فتهرب الى حضني وتبقي عينيك معلّقة بوالدك..
كنّا نعرف الجواب…كنّا جناحيك..
أقول لك الآن.. ودّدت لو قلتَ حينها أحبُّ أبي أكثر….فكلاكما حبيبي
أتذكر يا ولدي يوم أشرت على ابن جيراننا وأنت تضحك وتقول: مجنون
لم اصرخ وانفعل لأوقظ إنسانيتك، إنما أيقظتها بهدوء، جارنا مريض يا قلبي، والصحة ليست دائمة لأحد كلّ منّا معرّض للمرض، ونحتاج للرّحمة والتعاطف، أليست الرحمة يابنيّ من صفات الخالق التي يحبها فينا؟
لا أنسى وقتها سألتني: هل من الممكن أن أمرض مثله، قلت لك يا ولدي أرجو ألا يحدث هذا … لم أستطع أن أتمّ حديثي وقتها فالفكرة بحدّ ذاتها أرعبتني.
هل تذكر يوم رفعت صوتك عليّ لأنك تعتقد أنك أصبحت شاباً، ووالديك من زمن ماض، لم ارفع صوتي لكني تعذبت، أحسست أن يديّ أو رجليّ، أو رئتيّ تمردت عليّ ، وصار جسدي معاقاً، هي الروح التي كانت تشكو من ضعفي أمام أمومتي…
أعرف أنك تحاول الآن إلغاء هذه الذكرى من ذاكرتك لأنها شامة سوداء في أنف أنفتك ورجولتك..
لن أطيل أكثر..سأختصر بكلمتين اثنتين..
بني.. أحبك… أشتاقك
التوقيع:
رسالة من امرأة …لم تلد أبداً.