أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي
لم يكن أحد بالقصر السلطاني في زنجبار يتوقع تلك الأحداث التي حدثت للأميرة الصغيرة سالمة بعد وفاة والدها السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي مؤسس الإمبراطورية العمانية وموت والدتها الشركسية أحب حريم السيد الذي كان له الكثير من الأبناء والبنات من أمهات مختلفات الجنسية كالجورجيات والشركسيات والعربيات وإلخ ..
فتم تقسيم الميراث على الأبناء وأخذ كل واحد منهم نصيبه في ظل انشغال شباب العائلة بالحكم والتنافس عليه بينما عاشت أغلب أخواتهم في قصورهن يتمتعن بالحرية كالذي حدث مع الأميرة سالمة التي عاشت لوحدها مستقلة وهي بسن الـ 16 عاما من عمرها.
وفي ظل كل هذه الظروف اختارت هذه الأميرة حياة مختلفة تماما وخارجة عن نطاق الأعراف والتقاليد بشكل كان صادما لعائلتها ولكل من يقرأ لأول مرة سيرتها.
كانت أولى نتائج وفاة أبيها انقسام إخوتها الذين لا تجمعهم غالبا أم واحدة في الصراع على السلطة خاصة ما حدث بين ثويني وتركي وماجد وبرغش ، لذا كان الجميع مشغولا بهذه الصراعات وقد جروا من خلال شتاتهم بقية الأخوة والأخوات للاصطفاف مع هذا وذاك.
وبينما كانت الأميرة سالمة تعيش في قصرها بجوار بعض منازل التجار الأوروبيين ، نشأت بينها وبين أحد التجار الألمان علاقة ود لتتطور هذه العلاقة إلى محبة واتفاق زواج وأشياء أخرى لم تكن بحسبان الجميع لا سيما عائلتها.
فلم يكن يتخيل أحدهم بأن أختهم سالمة قد قررت الهرب أولا من زنجبار لتتخلص من كل ما يربطها من عادات وتقاليد تمنع لقاءها وقربها من الشاب الألماني بعدما اتفقا على الهرب سويا في أقرب فرصة.
وبعد خطة محكمة وتوقيت غفل عنه الجميع أخذت السيدة سالمة معها كل ما تستطيع حمله من أمتعتها الشخصية لتهرب مع قبطان إنجليزي كانت قد اتفقت معه مسبقا لتسافر معه عبر سفينته فيوصلها إلى وجهتها الأولى وهي اليمن لتمكث هناك بانتظار الشاب الألماني الذي اختارته للزواج والذي لم يستطع الخروج من زنجبار معها نتيجة رغبته في تصفية أعماله التجارية في الجزيرة أولا قبل أن يرحل عنها نهائيا ليلاقي ابنة السلطان والعيش سويا.
وبالفعل هربت الأميرة إلى اليمن وهناك وحينما وصل الألماني بعدها بفترة وجيزة قررت سالمة اعتناق المسيحية وتم تعميدها وإتمام مراسم زواجهما في كنيسة بعدن ليسافرا بعدها سويا إلى المانيا ويعيشا هناك فكانت الأميرة سالمة هي أول عربية تهاجر إلى أوروبا وتأخذ الجنسية الألمانية وتبدأ هناك رحلة المأساة التي فجعتها طويلا حتى وفاتها عام 1922م .
وقد دونت بخط يدها ووثّقت كل تفاصيل حياتها الحزينة من خلال كتاب سمّته مذكرات أميرة عربية خطت فيه بالألمانية كل الأحداث المتعلقة بالقصر والعائلة منذ طفولتها وحتى لحظات هروبها ووفاة زوجها ومعاناتها ومحاولتها العودة مجددا إلى زنجبار ، وقد كتبته بتفاصيل عميقة ما نورده لكم هنا مختصرا كالتالي:
” في خلال تلك الأيام الحالكة الحافلة بالكيد والشجار بين أفراد عائلتنا أسعدني الحظ بالتعرف على شاب ألماني كان ممثلا لأحد المحال التجارية الألمانية في زنجبار، وهو الذي كتب له أن يكون زوجي في قابل الأيام ..ولأن الكثير من القصص الكاذبة واللغو الباطل قد روي عن هذا الموضوع فأرى من الأفضل أن أوجز حقيقة هذه القصة في هذا المكان .
تمتع الأوروبيون في زنجبار في أثناء حكم أخي ماجد بمركز اجتماعي لم يكن لهم من قبل ، فكانوا يحلون ضيوفا معزّزين مكرّمين على أخي في قصره أو مزرعته ،وقد أقمنا أنا وأختي خولة علاقات طيبة مع بعض العائلات الأوروبية في زنجبار تتجلى في تبادل المجاملات والزيارات قدر ما تسمح به عادات البلد وتقاليدها ، وكانت زيارة السيدات الأوروبيات تقتصر علي وعلى أختي خولة من دون نساء القصر .
وقد تعرّفت على زوج المستقبل بعد عودتي من بوبوبو ، فقد كانت الدار التي سكنتها مجاورة لداره، وكان سطح داره أوطأ من سطح داري، وكنت غالبا ما أرقب من نافذتي حفلاته الرجالية الباذخة التي كان يتعمد اقامتها في الأماكن التي يقع عليها ناظري لعلمه برغبتي في الاطلاع على هذه الاحتفالات الغربية، وسرعان ما شاع في البلد خبر صداقتنا التي تطوّرت في النهاية إلى حب متبادل ، فسمع بها أخي ماجد ،ولم يحرك ساكنا، وكل ما تقوله الإشاعات في هذا الصدد عن عدائه لي أو سجني فهو خيال لا أساس له من الصحة .
وكان طبيعيا لي أن أحاول الخروج من البلاد سرا طالما يستحيل زواجي فيها، وقد فشلت محاولتي الأولى، ثم تهيأت لي الفرصة الثانية بفضل المسز(س) زوجة الدكتور والقنصل الانكليزي التي نقلتني في إحدى الليالي بزورق المستر (ب) ربان الباخرة الحربية البريطانية هاي فابر التي كانت جاهزة للحركة ، وما إن صرت على ظهرها حتى غادرت الميناء على التو ، واتجهت نحو الشمال إذ أوصلتني إلى هدفي المقصود وهو ميناء عدن .
وفي عدن نزلت بضيافة عائلة اسبانية تعرّفت عليها في زنجبار وظللت أنتظر بفارغ الصبر قدوم زوجي الذي لم يلحق بي إلا بعد عدة أشهر قضاها في زنجبار لتصفية أعماله في شركته ، وفي فترة الانتظار هذه أخذت أتلقى تعاليم الدين المسيحي ، وما إن وصل زوجي حتى تم تعميدي باسم اميلي روث في الكنيسة الإنكليزية في عدن ، وتبعته في الحال مراسم الزواج طبقا للشعائر الإنكليكانية.
ثم سافرت وزوجي إلى وطنه هامبرج حيث استقبلنا والده وأهله بترحاب حار، وفي الحال حملت نفسي على التكيف على العيش في المحيط الأجنبي الجديد ، وبدأت بكل لهفة وحماس أتعلم كل ما يمكن ليساعدني في حياتي المستقبلية، وكان زوجي العزيز يراقب بكل متعة وسرور مراحل تقدمي في هذا المجال، فقد كان يهمه بوجه خاص أن يرى انطباعاتي بالنسبة للحياة الأوروبية وقد سجلت وانطباعاتي في مذكرات خاصة أرجو أن أتمكن من نشرها يوما ما.
لكن حياتنا السعيدة الهانئة لم تستمر إلا فترة قصيرة، فلم يمض على استقرارنا في هامبرج إلا ثلاث سنوات وبعض السنة حتى أصيب زوجي العزيز الحبيب بحادث خطر أثناء قفزه من عربة الترام، وبعد ثلاثة أيام قضاها في ألم مبرح وافاه الأجل المحتوم.
هكذا قدّر لي أن أبقى وحيدة في هذا البلد الكبير الغريب، ومعي ثلاثة أطفال لم يتجاوز عمر أصغرهم الثلاثة شهور ، وقد فكّرت في العودة إلى وطني، ولكنّ القدر شاء أن يلاحقني بالفواجع، فقد توفي بعد شهرين أخي ماجد الذي عوّدني منذ الصغر على العطف والحنان حتى بلغ في حلمه أنه لم يستنكر هروبي من زنجبار.
وقد أعطى برهانا حساسا على عواطفه الأخوية الفياضة إذ أرسل لي قبل وفاته مركبا محملا بأنواع الهدايا لتسلّم لي في هامبرج، لكنني مع الأسف لم أستلم شيئا منها ، وقد علمت بعد سنوات أن المركب وصل الميناء فعلا، ولكن أوامر ماجد لم تنفذ.
وهنا يجب أن أقر ايضا أنه بعد رحيلي المفاجئ من زنجبار لم يضايق زوجي بل تركه في حريته حتى أنجز أعماله وصفاها وغادر البلاد لاحقا بي إلى عدن .
أمضيت ، بعد هذا، سنتين في هامبرج لم يفارقني فيها سوء الحظ، وقد فقدت مقدارا كبيرا من ثروتي بسبب أخطاء بعض الناس الذين وثقت بهم وأحسست بالنفرة من هذا المكان الذي شهد الكثير من أيام سعادتي، وزاد في ألمي المعاملة السيئة التي عاملني بها الألمان في هامبرج.
ولهذا انتقلت إلى قرية (دريسدن) حيث استقبلت بأطيب عواطف الصداقة في كل مكان، وفي تاريخ متأخر تبينت رغبتي في السكن بهذه المدينة الجميلة الصغيرة (رودول ستات ) وهنا أيضا قوبلت بأصدق عواطف الوداد والإخلاص خلال اقامتي من قبل الأمير الذي عمل كل ما يستطيع ليجعل اقامتي هانئة سعيدة ، وقد تحسنت صحتي في رودول ستات، فقررت أن تكون برلين مقري ليستطيع أولادي متابعة دراستهم فيها، وهنا أيضا وجدت أصدقاء كثيرين ادخلوا على حياتي البهجة والسرور، وقد أظهرت العائلة المالكة نفسها اهتماما ساميا بي سأبقى أذكره لها بكل وفاء وعرفان … “.
هذه قصة الأميرة سالمة أو إميلي روث التي استمرت معاناتها حتى وفاتها وذلك بفشلها الرجوع إلى زنجبار بعد عدة محاولات نتيجة العداء الذي يكنه السلطان برغش اتجاهها رغم وصولها إلى زنجبار للاستقرار فيها ، لكنها لم تحظ بالترحيب إلا من المحبين لها من العرب والهندوس والبانيان وبعض من أهل زنجبار ولكن كل ذلك لم يدم طويلا ، فالسلطان برغش قام بطردها ، وقد علقت قائلة في ختام مذكراتها وهي تصف لوعة فراق موطنها مرة أخرى :
” ..ولكن ساعة العودة والرحيل قد آنت وكانت ساعة أليمة مليئة بالغصة ،والألم بالنسبة لي ،وبالنسبة لأصدقائي القلائل الذي آلمهم الوداع ،كما آلمني وبرح بهم البين كما برح بي، وأرى أن خير ما أختم به هذا الفصل وهذا الكتاب كله هو نشر بعض رسائل وداعهم شعرا ونثرا في لغتنا العربية الجميلة، أو في اللغة السواحلية :
– أيها النازحون عنا في سفينتكم عودوا إلينا فمكانكم مهجة القلب ومقلة العين .
ـ لو كنت أعلم قبل البين عزمكم على النوى .. لسار فؤادي خلفكم تبعا وصارت عيوني للحبيب هدية وصارت روحي له فداء .
ـ ايها السفين النازح رويدا تمنيت أن أكون طيرا فأطير حواليك ولكن كيف يطير الطير وقد هاض منه الجناح .
ـ الهي يارب العالمين اجمعنا ثانية قبل الممات أو دع أرواحنا تلتقي في جنات سمائك .
المرجع : مذكرات أميرة عربية بقلم السيدة سالمة بن سعيد بن سلطان سلطان مسقط وزنجبار ، ترجمة عبدالمجيد حسيب القيسي ، الطبعة التاسعة ٢٠٠٦.