كتبه: د. رضية بنت سليمان الحبسية
يمر الإنسان بمراحل حياتية ومهنية متعاقبة، يعيشها بين حنين الذكريات، وذبذبة الواقع، وهواجس المستقبل. وإن كانت محطات طبيعية مضمونًا وشكلًا، إلا أنّ لها انعكاسات وتأثيرات متباينة بين محطة وأخرى، بل وبين فرد وآخر. فما بين الطموح والخذلان، بين القلق والطمأنينة، وبين السكينة والاضطراب. وتأتي مرحلة التقاعد بين حُلم كل موظف بعد انقضاء سنوات في الخدمة بغض النظر عن المدة الزمنية، أو المواقع الوظيفية، وبين شبح الديون المتراكمة لدى كثير من العاملين.
تتباين ظروف وحياة البشر، بين البساطة وبحبوحة الحياة، وبين الترف وشظف العيش. ولكل تلك الصور والمفارقات عوامل ومتغيرات، إما بيئية، أسرية، اقتصادية، أو سياسية. كما تتحكم بروتوكولات وأنظمة العمل، وسياسات الدول في كثير من جوانب وأنماط حياة الناس، والتي قد تفضي إلى فوارق مجتمعية بين عائلة وأخرى. وبالمقابل فقد يستطيع أنْ يُحْدِث رب أسرة ما فرقًا في مسار حياته، بما أُوتي من سبل التصرف، ومؤهلات السعي، وممكنات المعالجات. فتجد أحدهم يحقق ثراءً فيتغيّر معه نمط حياته، وإنْ لم تكن له من المواريث نصيبًا أو الهبات حظًا. وقد تجد الصورة المعاكسة ممن يرث الشيء الكثير، فيبدد ما ورث بسوء تصرفه، ومحدودية إدارته.
ومن بين تلك النماذج والحالات، والتي تُعدّ أكثرها شيوعًا: واقع موظف متوسط حجم الأسرة، ومتوسط الدخل. فكي يُؤَمّن حياة كريمة، كتوفير منزل، وسيلة نقل، وضرورات معيشية وأساسية، وبمواصفات اعتدالية، لا يجد أمامه سوى الاقتراض من مؤسسات تفتح ذراعيها على مصراعيها؛ مستقبلة كل لاجئ، بشروط وجزاءات غير مأمونة، ومقيّدة عنق المقترض بسلاسل من حديد لسنين طوال. ما انفك منه سوى من حظي بمخرج ينتشله من غرقه بوسيلة أو بأخرى. فإما بجمعيات أهلية، أو صراعات سوق عمل، لعمل إضافي بين ربح وخسارة، وفي كلا الحالتين، بدعم آخرين قد يكونون أفضل منه حالًا.
فإذا افترضنا، إخفاق ذلك العامل في الخروج من عنق الزجاجة إلى فضاء أرحب، منذ بداية حياته المهنية، وحتى نهاية خدمته العملية، بما يُحقق له الطمأنينة، فإنّ شبح الديون يطارده في ليله ونهاره، صحوه ومنامه. فأي حياة لإنسان غارق في وحل المطالبات والالتزامات الشهرية، فلا يتبقّى من راتب تقاعده سوى الفتات؛ ليقتات منه وأسرته، وقد يتعدى الحال إلى قصور ونقص في تغطية متطلبات الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس، أو مسكن في أحيان أخرى.
فمع تلك الحال، لا يصعب لأحد أن يتخيّل حالة المديون اليومية، وما يمر به من أمراض نفسية؛ ناشئًا عن عجزه لإكمال حياة طبيعية، وبالتالي انعكاسات متوقعة في التكاليف المالية؛ للعلاج وتوفير الأدوية الطبية. وفي حقيقة الأمر، فالواقع لا يحتمل إلقاء اللوم عليه؛ لسوء التخطيط والتدبير، بقدر ما هو بحاجة لدراسة مسببات ما آل إليه الكثيرون بخروجهم للتقاعد، سواء إجباريًّا أو اختياريًّا. ويمكن حصر غالبية تلك المسببات في نظام التأمينات والقروض البنكية، التي تستنزف أموال الناس، استغلالًا لحاجتهم، بقوانين محكمة تضمن لأصحاب المؤسسات الثراء الفاحش وبأرقام خيالية، فلا يعرفون للخسارة طريقًا ولا للرحمة مدخلًا.
ومع التطورات الحاصلة في نظام التقاعد الجديد، سَتُكْشّر البنوك والمؤسسات المشابهة عن أنيابها؛ مستغلة الظروف الاقتصادية، وأنظمة العمل المُحدَّثة الخاصة والحكومية، فيكون أثرها المباشر على الإنسان البسيط ذي الدخل المحدود نتيجة كارثية. ولأنها سنة كونية، ومن المسلّم به وجود الفروقات بين الناس طبيعية، فلا يمكن أن يكونوا سواسية في الأرزاق المالية، الإمكانات العقلية، أو القدرات الجسدية، حتى تكون أساليب تعاطيهم وتكيفهم مع التحديات والمستجدات بذات المستوى ، أو بذات الكيفية.
وهنا الدعوة لذوي العلاقة: قيادات، ومؤسسات، بالنظر في تلك اللوائح والمذكرات، المؤطرة للعمل البنكي والقطاع التأميني خاصة، ومراجعتها بما لا تُرهق كاهل العاملين القُدامى أو المستجدين؛ لكيلا تنحدر الأوضاع إلى مزالق تُلقي بآثار على الفرد، والمجتمع على حد سواء. فلكل قضية اقتصادية، لها تبعات اجتماعية ونفسية، ومسؤولية وطنية ومجتمعية. فإنْ لم يَسْلَم منها المتقاعدون، فالأمل بحماية المقبلين على العمل من براثن البنوك والمؤسسات الربحية الأخرى.