أثير- أحمد الشبيبي، اختصاصي استشارات أسرية
تَبدأُ العلاقةُ الزَّوجيَّةُ مليئةً بالدِّفْءِ والمودَّة، وتكونُ الرَّوابطُ بين الزَّوجيْن قويةً ومتِينَة، إلا أنَّه وبعد مدةٍ تَبدَأُ تلك الشُّعلَةُ في الخُفوت، وتُصبِحُ العلاقةُ ضعيفةً والرَّوابِطُ هشَّةً، والمودَّةُ شِبْهَ مُنعدِمَةٍ بسبَبِ ضُغوطِ الحياةِ وتحدِّياتِها الاقتصاديةِ والاجتماعية، ولهذا السَّبَبِ تَرِدُ عليْنا في مركَزَ زُلفَى للاستشاراتِ الأسَريَّةِ مثلُ هذه الأسئلةِ الملحَّة: كيْفَ نَستطِيعُ تَقويَّةَ علاقَتِنا الزَّوجيَّة؟ وما هي السُّبُلُ الكَفيلَةُ بالحفاظِ على دفْءِ المودَّةِ والمحبَّةِ بينَنا؟
قبلَ الإجابةِ عن هذا السُّؤال، لا بدَّ من التَّأكيدِ على نُقطةٍ مُهمَّة، وهي أنَّ مرورَ العلاقةِ الزَّوجيةِ ببعضِ التَّحدياتِ والمشاكلِ أمرٌ طبيعي جدًّا، وشعورُ الزوجيْن بضعْفِ المودَّةِ أحيانًا ليس نذيرَ شؤْمٍ كما قد يَتوقَّعُ البَعض، فهذه طبيعةُ الإنسان، من الحتْميِّ أن تَعْتريَّه بعضُ الاختلالاتُ والتَّقلبات، ولكن الذي يَنبغي التركيزُ عليه هو كيفَ نَعودُ إلى سابقِ عهدِنا من جديد، وأن نَعمَلَ على تقويَّةِ علاقَتِنا الزَّوجيَّةِ كلَّما أحْسَسْنا بالضَّعفِ يَتسلَّلُ إليها، ليُحافظَ على استمرارِها ودوامِها في أحسنِ الظروف.
من الأخطاءِ التي يَقعُ فيها الزوجان: اعتقادُهُما بأنَّ الأسرَ والعائلاتِ الأخرى تَعيشُ حياةً سعيدةً تَغمُرُها المحبَّةُ والمودَّة، وأن المشاكلَ تُطاردُهما من دونِ العالمَين، وهذه فكرةٌ لا أساسَ لها من الصحة، فكلُّ أسرةٍ لها مشاكِلُها وتحدِّياتُها، ولا يُوجدُ بيتٌ ليستْ فيه خلافاتٌ وتَقلُّبات، ثم إنَّ نسبةَ السَّعادةِ الزوجيةِ تَتفاوَتُ من بيتٍ لآخر؛ فهُناك بيتٌ تَغْلُبُ عليه السعادةُ والوِفاق، وبيتٌ بالعكسِ من ذلك، تَغْلُبُ عليه الاختلافاتُ على الرَّغم من وُجودِ حُبٍّ عميقٍ بين أفرادِه، تلك سنَّةُ الحياة، وهي مفيدةٌ في بعضِ الأحْيان؛ حيثُ تنبِّهُنا المشاكلُ إلى نِقاطِ الخَلَل، وتَدْفعُنا للرُّجوعِ إلى الوراءِ خطوةً من أجلِ تصحيحِ المسِير.
علينا أن نكون على بَصيرةٍ من هذه الحقيقة، وأن نَتقبَّلَ هذا الوضْعَ على أنه من مُسلَّماتِ الحياةِ التي يَستحيلُ الفَكاكُ منها، فلا مَجالَ للمُكابَرَةِ والنُّكْران، ومن الحكمةِ تقبُّلُ الأمرِ كما هو، والتَّعاملُ معه بمُرونةٍ وفِطْنة، ونَذْكُرُ لكم فيما يَلِي أفكارًا ستُساعِدُ الزَّوجيْن على استعادَةِ التوافُقِ والمودَّةِ بينها، وتَجاوُزِ حالةِ الفُتورِ العاطفي بسَلاسَة.
أولا: اللُّجُوءُ إلى الله عزَّ وجَل:
إن طبيعةَ العلاقةِ التي بَينَك وبين خالِقِك، وعُمقَ إيمانِك به، وصِدْقَ توجُّهِك إليه، وقُوَّةَ توكُّلِك عليه، تنعكِسُ على مُختَلف جوانِبِ حياتِك، ومنها الجانِبُ الأسري، فإن صَلُحَتْ علاقَتُك بربِّك جَلَّ وعَلا، ستَصْلُحُ في الغالِبِ علاقتُك بزوجَتِك وأولادِك، وستَطِيبُ الحياةُ في نظَرِك، وسيَختَلفُ تَعامُلُك مع مصاعِبِ الحياةِ وتحدِّياتِها؛ حيث ستعتَبِرُها ابتلاءاتٍ من ربِّك تتلقاها بصبر وثبات، بعيدا عن الانزعاجِ والتَّذمُّر، فاحرِصْ على صلاتِك، وواظِبْ على تلاوةِ القرآن، وأكثرِ من الذِّكرِ والاستغفار، واجعل لك أيامًا في الشهرِ تَصومُ فيها وتتصدَّق، وستَرَى مدَى الامتنانِ والاطمئنانِ التي تَشعرُ به، وستُلاحظُ قدْرَ السَّكينةِ التي تَغمُرُ جَنَباتِ بيْتِك.
لا يَعني هذا أن تَقضيَ كلَّ وقتِك في الصلاة والتَّعبُّد، بل إن لأهْلِك وأولادِك ونفسِك عليك حقًّا، كما قال عليه الصلاة والسلام: “ولأهلِك عليْك حقا”، فلا تُضِعْ حقوقَهم وتَنتظِر السَّعادةَ الزوجيةَ بعد ذلك، ومن هُنا نُدرِك أهميَّةَ التَّوازنِ والاعتدالِ لنيْلْ السعادةِ الدُّنيويَّةِ والأُخْرويَّة.
ثانيا: تَجديدُ الحياةِ الزوجيَّة:
مِن طبْعِ النُّفوسِ أنها تَملُّ وتَسْأَمُ من الأمورِ التي لا تَبدُّلَ فيها ولا حيويَّة، ومن عادةِ الأشياءِ غيرِ المتجدِّدةِ أنها تَبْلَى وتَذْبُل، فإن كانت الحياةُ الزَّوجيَّةُ رتِيبَةً لا تَجديدَ فيها ولا تَحدِيث، سيَبدَأُ الزوجانِ في فُقدانِ الرَّغبةِ في الاستِمرار، وسيَشعُران بثِقْلِ العلاقةِ ورَتابَتها، وستكْثُرُ بينهما الخلافاتُ لأتْفَهِ الأسباب؛ لِذَا يَنبَغِي على الزَّوجيْنِ العمَلُ قدْرَ المستَطاعِ على تجديد علاقَتِهما، وخَلْقِ بعضِ المفاجآت، وكسْرِ رَتابَةِ الحياةِ اليوْميَّةِ بجولةٍ سياحيَّة، أو قضاءِ أيامٍ في بيتٍ غيرِ بيتِ العائلة، أو تنظيمِ حفلةٍ لهما ولأطفالِهما، أو الخروجِ في نُزْهةٍ لمشاهدةِ مناظرَ طبيعيةٍ خلَّابَة، تُنعِشُ الرُّوح، وتَضُخُّ في القلبِ دِماءً جديدة، وتَبْعثُ في الجَسدِ الطاقَةَ والحيوِيَّة، مما يُساعِدُ على جَعْلِ الحياةِ الزَّوجيَّةِ دائمةَ التَّجدُّدِ والنَّشاط.
ثالثا: الاحترامُ المتبادَل:
أوَّلُ ما يَنبغي التركيزُ عليه في هذه المسألةِ هو تَحديدُ مَعنى الاحترام؛ فالاحترامُ لا يَعني أنَّني لا أقولُ لك كلاما جارِحًا أو بَذِيئًا أو ما شابَه، بل إنه بالإضافةِ إلى ذلك يَعني احترامَ آراءِ وأفكارِ واهتماماتِ الطَّرفِ الآخر، وعدَمَ الاستخفافِ بها، ومحاولةَ تَقبُّله كما هو، دونَ الضَّغطِ عليه ليَصيرُ ملائِمًا لتصوُّراتِنا ورغَباتِنا، لا نَقصِدُ بذلك السُّكوتَ عن الأخطاءِ والعيُوبِ التي لا تُغتَفر، بل يَتعيَّنُ تَنبِيهُ شريكِ الحياةِ إلى أخطائِه وعيُوبِه بأسلوبٍ حكيم، مع اختيارِ الوقتِ والمكانِ المناسِب، مما يُساعِدُ على تقبُّلِه لرأْيِك واستِيعابِه جيِّدًا.
رابعا: التَّغافُلُ عن الهَفَوات:
هل أنت كامِلٌ مَعصومٌ من أيِّ عيْبٍ أو تَقْصير؟ لعلَّك تَستغْرِبُ سؤالي، وتُجيب: قطعًا لا، ولكن الغَريبَ هو انتظارُنا من الآخرين أن يكونوا مِثاليِّين مُنزَّهينَ عن كلِّ عيْبٍ أو خَطأ، وهنا نَدْعُو كلَّ زَوجيْن إلى الإيمانِ بهذه الحقيقةِ المطْلَقَة، والتَّغاضِي عن كَثيرٍ من عُيوبِ وأخطاءِ شريكِ الحياة، والتَّغافُلِ عنها وكأنَّنا لا نَراها ولا نَعرِفُها، فذلك يُساعِدُ على سيْرِ الأمُورِ بسلَاسة، ويُبعِدُ الأسرةَ عن كثِيرٍ من المشاكلِ التي هي في غِنًى عنها، كما يُوَطِّدُ معانيَ الثِّقةِ والمحبَّةِ بين الزوجين.
وإذا أردْتَ تَحوِيلَ حياتِك وحياةَ من يَعيشُ معك إلى جحيم، فما عليْكَ سِوَى أن تَترصَّدَ أخطاءَ الآخرين، وأن تُسجِّلَ عنهم كلَّ صغيرةٍ وكبيرة، وتُحاسِبَهم على كلِّ سُكونٍ أو حَركة، وهكذا ستكْرَهُك زَوجَتُك، ويسْتَثْقِلُك أولادُك، ويَنفِرُ منك أصدقاؤُك.
خامسا: التَّشاوُر:
لقد أمرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ رسولَه باعتمادِ مبدَأِ الشُّورُى في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَستشيرُ زوجاتِه حتى في بعضِ شُؤونِ تَسيِيرِ المدينةِ والتَّعامُلِ مع الصَّحابة، ومن هنا نَستَنتجُ أهميَّةَ التَّشاوُرِ في الحياة، فاحْرِصْ أيُّها الزوجُ الفاضِلُ على مُشاوَرةِ زوجَتِك وإِشْراكِها في كثيرٍ من قراراتِك، وهذه المشاوَرةُ ستُشعِرُها بأهمِّيَّتها عندك، وستُحسِّسُها بتقديرِك لها، مما يَجعَلُها تَزْدادُ حُبًّا واحترامًا لك، ولا تَعتَقِدْ بأن مُشاوَرَةَ الزوجةِ يُنقِصُ من مكانَتِك، بل إنك تقْتدي في ذلك بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، وسيَرْفَعُ هذا الأمرُ من قدْرِك في نَظرِها.
وكذلك الأمرُ بالنِّسبَةِ لكِ أيَّتُها الزوجةُ الكريمة، شاوِرِي زوجَك في الأمورِ التي تَخصُّك، وحاولي إشراكَه في تَحديدِ حتى ما تَطبُخِين، ولا تَعتَقدي بأنه لا يَهتَمُّ لذلك، بل سيَجعَلُه هذا التَّصرُّفُ اللَّطيفُ منكِ يُشعِرُه بأنَّكِ تَهتمِّين لمعرفةِ رأيِه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، مما يُوَطِّدُ العلاقةَ والمحبَّةَ بينكما.
سادسا: خَصِّصَا وقْتًا لبعضِكما:
قلَّمَا يُخصِّصُ الزوجانِ وقتًا خاصًّا بهما، لا يُشارِكُهما فيه أبناءٌ ولا أقارب، ولا يَتَشاغَلانِ فيه بتصفُّحِ المواقِعِ والتَّطبِيقات، ولكن يَنبَغي على الزَّوجيْن تَخصِيصُ وقْتٍ كلَّ يومٍ للجُلوسِ مع بعض، ولو كان لمدةِ رُبْعِ ساعةٍ فقط، يَتحدَّثان فيه عن أشياءَ مُختَلفة، ويَتناوَلان مواضيعَ مُتنوِّعة، سواءٌ كانت مُتعلِّقةً بهما أو بأبنائِهما، أو بقضيةٍ اجتماعيةٍ أو اقتصادية، المهِمُّ هو الجُلوسُ معًا وتَشارُكُ لحظةٍ في اليوم، لتوْطِيدِ العلاقةِ والحفاظِ على دِفْئِها.
سابعا: الملَاطَفَةُ والمداعَبَة:
يُعتبَر التَّواصُلُ واحدًا من أهم عَوامِلِ غرْسِ المحبَّةِ في القلب، وتَوْطِيدِ أَواصِرِ العلاقات، ولا يَقتَصرُ ذلك على التَّواصُلِ الشَّفَهِّي بالكلمات، بل إن للتَّواصُلِ الجسدِيِّ عن طريقِ الملامَسَة والملاطَفَةِ دوْرًا مهمًّا في تعميقِ الحبِّ وتجديدِ أحاسيسِ الودِّ والأُلْفَة، ويُؤكِّدُ الخبراءُ على أن اللَّمسَ تَعبيرٌ عن المحبَّةِ والثِّقة، ودليلٌ على قَبُولِ الطَّرفيْنِ ببعضَهما وتَعلُّقِ كلٍّ مِنهما بالآخر، كما أنه يُفْصِحُ عن معانٍ من الحنانِ والرَّأفَةِ والهُيامِ، لا يُمكنُ أن تُعْرِبَ عنها الحروفُ والكلِمات، لذلك نَدْعُو الزَّوجين إلى اغتنامِ الفُرصِ السَّانِحةِ لملامَسَةِ بعضِهما عن طريقِ مُداعَبةِ الأيْدي، أو القُبَل، أو الأحْضان، والمساعدةِ في تَسريحِ الشَّعرِ أو ارْتداءِ الثِّيابِ والحُليِّ وغيرِ ذلك، مما يَزيدُ عُمقَ المشاعر، ويَملأُ قَلبَ كلٍّ منهما بالمحبَّةِ والسُّرور.
ونُشيرُ في الخِتامِ إلى أنَّ هذه الخُطواتِ قد لا تَنفعُ كثيرًا في حالةِ ما إذا أَهْمَلتَ نَفسَك، وقصَّرْت في حقِّ ذاتِك، فاهْتَمَّ بشخصيَّتِك قليلا، وأَعْطِ لنفْسِك فُسْحةً من الوقت تَقضِيها في هِوايةٍ أو رُفقَة أصدقاء، والاهتمامِ بتَكوين علاقاتٍ جديدة، مما يُساعدُ على تَخفيفِ ضُغوطِ البيتِ وإرْهاقِ العمل، ويُمكِّنكُما من العودةِ إلى البيْتِ بنَفَسٍ جديد، تَستطيعان من خلالِه غَمْرَ المنزلِ بالطَّاقةِ الإيجابِيَّةِ وتَقويَّةِ العلاقةِ الزَّوجِيَّة.