فضاءات

الروائي الأردني جلال برجس يتساءل عبر “أثير”: هل تجعل القراءة منك كاتبًا؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي الأردني جلال برجس

حين وجدتُني أستغرق بالقراءة في تلك المرحلة المبكرة من عمري، وأدمنها على صعيد الفعل السلوكي، لم أكن أفكر بأن أصبح كاتبًا؛ كنت فقط أنتمي لذلك الإحساس الطاغي من الانتقال من عالم الواقع المحدود بالمعنَيين البصري والملموس بكل ما يتوفر فيه من احتمالات القسوة، إلى عالم الخيال الفسيح الهانئ، والحميمي. كانت ممارسة روحية لشكل فريد من أشكال السفر إلى بلدان، وأناس، وأفكار، وأحداث، وأزمنة جديدة. لكي يحلم المرء -كما يقول ميشيل فوكو- فهو ليس بحاجة إلى أن يغمض عينيه، بل عليه أن يقرأ. ولكي يكون صادقًا مع نفسه -كما قال الكاتب الأمريكي سالينجر- يحتاج على الأقل إلى ساعة من الكتابة. أتذكر أني بعد قراءتي لأول كتاب في حياتي وكان رواية (البؤساء) لـ (فيكتور هوغو) وكنت صغيرًا في العمر آنذاك، صعدت إلى رأس شجر سرو أريد أن أرى (باريس)، كان ذلك في زمن القرية التي كنت أعتقد أنها هي العالم وما بعدها لا شيء.

ومع مرور الأيام اكتشفت أن الغرض الذي كان يقف وراء انخراطي اليومي في عالم القراءة كان مختلفًا عن غرضي من الكتابة التي أتت لاحقًا، رغم تقاطعهما ببعض الدوافع الذاتية والموضوعية. إذن هل يمكنني القول إن القراءة لم تساهم على نحو ما بتشكيلي كروائي؟ لقد كان لها ذلك من حيث اللغة، والأسلوب، وطريقة صياغة الأفكار، وكثير من عناصر الكتابة، لكنها ليست المحرك الأوحد لفعل الكتابة الذي يفكك التجربة الذاتية ويعيد صياغتها وفق رؤى جديدة، وليست اليد الوحيدة التي لها أن تؤدي بالكاتب إلى إعادة تشكل الواقع بناء على ما اكتسب من مفاهيم خاصة تشكلت عبر الزمن، الحاضن التفاعلي للتجارب الإنسانية بكل أبعادها، ومستوياتها.

الكتابة ردة فعل على خلل في واقع ذاتي، وآخر موضوعي، وهي بطبيعة الحال ليست فعلًا ترفيهيًا إنما رؤية قادمة من عدم الرضى عن السائد. من هنا يمكن الحديث عما يسمى بالموهبة التي ترتبط بقوة بالدرجة العالية من الحساسية في رؤية الكون والذات؛ إذ أن الموهبة برأيي هي هذه الحساسية بدرجاتها العالية؛ وبالتالي تغدو الكتابة وسيلة علاجية ذاتية تنظر إلى حياة الكاتب وعلاقتها بكل ما يحيطه على مختلف الصعد. هل يعني هذا أن الكاتب كائن عصابي، أو لديه خلل نفسي؟ بطبيعة الحال لا يمكننا الجزم بهذا؛ فعلم النفس بكل مدارسه لم يصل إلى حقيقة ثابتة في هذا الشأن. لكن يمتاز من ذهبوا إلى عالم الكتابة بقدرتهم الفائقة على الاحتفاظ بالكثير من التفاصيل الشخصية، والتفاصيل التي يرونها أثناء حركتهم في مجتمعاتهم وبيئاتهم، وهذا يؤدي إلى تراكم يجعل من صاحبه كاتبًا، وفي الوقت نفسه يجعله متأذيًا. من هنا أرى أن الكتابة بالإضافة إلى كونها وسيلة للتعبير عن الذات والخروج بها على السائد غير المقنع؛ فهي عملية تفريغ للنتائج السلبية للتراكمات الحسية. في هذا الشأن يرى الكاتب والمعالج النفسي الأمريكي (فيليب كيني) أن علم النفس والإبداع والروحانية ليست مجالات منفصلة، بل أنها مرتبطة بشكل وثيق بالقوة التي تتحرك من خلالنا جميعًا. ويرى (كيني) أن الكتابة يمكن أن تكون علاجًا للاكتئاب، بل وبديلًا لمضاداته. ومن هذا المنطلق أصدرَ رواية عام 2012 بعنوان (إشعاع) صنفت على أنها واحدة من روايات أدب الاعتراف.

إن أكثر الكتّاب عمقًا –برأيي- هم أولئك الذين يبذلون جهدًا مضاعفًا لمكاشفة أنفسهم سواء بشكل مباشر أو من خلال الشخصيات في الروايات على سبيل المثال، وبالتالي ممارسة شكل قاسي من النقد المقترن بالحرية وعدم الانصياع للمثاليات الزائفة. بالإضافة إلى ما هو متعلق بالطبيعة السيكولوجية، فإن التأمل، والخبرة الحياتية المتنوعة، والرغبة بالتعبير عن الذات هي دوافع للكتابة، وهي التي بالإضافة إلى القراءة والممارسة الحثيثة للكتابة تصنع من الإنسان كاتبًا، رغم عدم انفصال تلك العناصر عن الواقع السيكولوجي للإنسان الكاتب؛ إنها عناصر مترابطة بشكل مذهل. من دون القراءة لا يمكن لتلك الأدوات التي يعبر الكاتب فيها عن ذاته، وعما حوله أن تستمر، ولا يمكن أن ينجح بتفريغ تراكماته. في هذه الحالة ستذوي مثل الأشجار التي غرست في أرض صحراوية أمطارها شحيحة، وبالتالي هي بحاجة يومية للماء.

التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل يمكن لإنسان أن ينجح في أن يكون كاتبًا من دون قراءة؟ ربما يحدث هذا لكن في نطاق ضيق جدًا، بل ونادر حتى. أما النسبة التي هي خارج هذا النطاق وخاصة أولئك الذين يوهمون وسائل الإعلام، والقراء بأنهم يقرأون باستمرار فإنهم ينتجون أعمالًا أدبية على الأغلب تشبه بعضها بنسبة عالية، أي أنها امتدادًا للعمل الأول الذي ولد اتكاء على جملة التراكمات الحسية، وبالتالي تصبح الأعمال اللاحقة مجرد دوران في حلقة مفرغة، وتشبه عزفًا على آلة موسيقية وترية ناقصة وترًا.

القراءة بمفردها لا تصنع كاتبًا، لكن غيابها ستقتل هذا الكاتب؛ إذ لا يكفي أن تشق قناة قصيرة في إحدى ضفاف النهر، بل عليك أن تستمر بشق هذه القناة، ليصل الماء إلى جذوع الأشجار فيحييها.

Your Page Title