الأزهر بن بدر بن سيف الحوقاني
محامٍ وباحث علمي في الشؤون القانونية، وباحث ماجستير في القانون الجزائي بجامعة السلطان قابوس - كلية الحقوق
دائمًا ما يتبادر إلى الأذهان تساؤل حول ما إذا كانت العقوبات الأصلية هي الوسيلة الوحيدة واليتيمة لإصلاح الجاني وإعادة تأهيله ليعود إلى حالته التي كان عليها قبل ارتكابه الجريمة. إن نمط العقوبات الأصلية مألوف للبشرية منذ أمد بعيد، إلا أن هذا النمط، وخصوصًا عقوبة السجن، غالبًا ما تترك آثارًا ممتدة في شخصية الجاني حتى بعد انتهاء مدة محكوميته. إذ يبقى أثر العقوبة مصاحبًا له كظله، ما يجعل عملية إعادة إدماجه في المجتمع كفرد طبيعي أمرًا معقدًا.
ولا بد من الإشارة إلى أن المُشرِّع العُماني قد أورد بالفعل في نصوص قانون الجزاء (7/2018) ما يعكس أهمية وجود عقوبات أخرى غير الأصلية، حيث تضمن القانون مواد تعالج العقوبات التبعية والتكميلية وضوابط تطبيقها (المواد 56-62). وينطبق ذلك أيضًا على قوانين أخرى، مثل قانون مساءلة الأحداث (30/2008).
إلا أن الإشكالية العملية تكمن في أن تطبيق العقوبات التبعية أو التكميلية لا يتم إلا إذا اقترنت بالعقوبات الأصلية (السجن، الغرامة، الإعدام)، حيث يشترط قانون الجزاء في المادة (56) أن يكون النطق بالعقوبات الأصلية مقدمةً لتفعيل العقوبات التبعية أو التكميلية. هذا الوضع يضع القاضي الجزائي أمام قيود قانونية تجبره على النطق بالعقوبة الأصلية قبل التفكير في أي عقوبة أخرى، ما قد يؤدي أحيانًا إلى نتائج غير مرغوبة، كما في حالة الحكم بالسجن على معيل أسرة في جريمة شيكات، مما يسبب ضررًا لأسرته ولشركته التي قد تنهار نتيجة غياب الإدارة.
ولذلك، تبنت بعض التشريعات العربية والأجنبية نهجًا يعيد النظر في طبيعة العقوبة بهدف تحقيق الردعين العام والخاص، وحماية المجتمع، وإصلاح المحكوم عليهم. وقد أكد المشرع العُماني دستوريًا على ذلك في المادة (31) من النظام الأساسي للدولة (6/2021)، حيث نصت على أن “السجن دار للإصلاح والتأهيل، وتخضع السجون وأماكن الاحتجاز لإشراف قضائي على النحو الذي يبينه القانون، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر، وينظم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم”.
ولما كانت الغاية الأسمى من وراء العقوبات الأصلية التقليدية تتجلى في قالب الإصلاح والتأهيل للمحكوم عليهم، ومع التطور الذي يشهده العالم، ظهرت العقوبات البديلة كوسيلة تحقق الأهداف الإصلاحية دون المساس بالشخصية الإنسانية للجاني أو فصله عن المجتمع، ما يسهم في تقليل الأعباء الاقتصادية المرتبطة بتكدس السجون. هذه العقوبات توفر مرونة للقاضي لاختيار الأنسب للحالة المعروضة عليه، كما أنها تسرّع من إعادة تأهيل المحكوم عليهم وإدماجهم في المجتمع.
علاوة على حرية القاضي الجزائي، بأن يختار ما يتلاءم من العقوبات البديلة مع الواقعة المعروضة عليه، إذ أن منطوق حكمه في مثل هذه الحالة يمكن بأن يكون -على سبيل المثال-: “حكمت المحكمة بإدانة المتهم في جريمة شيك لا يقابله رصيد وقضت بمعاقبته عنها بالسجن مدة ثلاثة أشهر على أن تستبدل العقوبة بإيداعه لدى إحدى برامج إعادة التأهيل...”، وفي حالة امتناعه عن تنفيذ العقوبة البديلة المشار إليها فإننا نطبق العقوبة الأصلية المشار إليها بموجب منطوق الحكم.
ومن أبرز أمثلة العقوبات البديلة: إيداع المحكوم عليه في برامج إعادة التأهيل التي تتضمن برامج تعليمية وسلوكية تهدف إلى إصلاح السلوك دون الإضرار بمركزه القانوني. فعلى سبيل المثال، يمكن استبدال عقوبة السجن في قضايا السب والقذف بإيداع الجاني في برنامج تأهيلي، إذ أن مثل هذه الجرائم لا تستدعي عقوبة السجن، ما لم يكن هناك حالة عود، وبالتالي مخالطة المتهمين الآخرين، بما قد يرجي إلى تأخر إصلاحه وتأهيله وإدماجه للمجتمع مرة أخرى، بل أنه من الأفضل والأجدر استبدالها بعقوبة بديلة، كإيداعه في البرامج التأهيلية دون تقييد مدة تنفيذها بإطار زمني، وكذا الحال بالنسبة إلى المتهم الراغب بتطهير نفسه من ضرر تعاطي المخدرات والعودة إلى لبنة المجتمع كفرد صالح لمجتمعه، فإن الإصلاح لمثل هؤلاء أولى بهم من التوبيخ والزجر والعقاب بالسجن.
وفي هذا الإطار، يرى الباحث أن وزارة التنمية الاجتماعية هي الجهة الأنسب للإشراف على تنفيذ مثل هذه العقوبات، بالنظر إلى دورها في تعزيز الإصلاح الاجتماعي. ويقترح انعقاد جلسات أسبوعية للمحكوم عليه دون فصله عن أسرته، مع تقديم تقارير شهرية لقاضي التنفيذ لتقييم مدى التزام المحكوم عليه بعقوبة بديلة من الحضور لمثل هذه البرامج، ومدى انعكاس أثرها عليه، والتي تتجلى في صورة إصلاحه وتأهيله وإدماجه وتطهيره من الآثار الجرمية وضمان عدم عودته لارتكابها أو ارتكاب أية جرائم أخرى مستقبلًا.
كما يدعو الباحث إلى تضمين تنظيم العقوبات البديلة في قانون الجزاء وقانون الإجراءات الجزائية لتجنب التشعب التشريعي، مع التأكيد على أن تطبيق هذه العقوبات ينبغي أن يكون جوازيًا وليس وجوبيًا، إحقاقًا لحرية القاضي في اختيار ما يتناسب مع كل حالة.