مسقط-أثير
إعداد: مصطفى بن ناصر الناعبي، مختص في الاقتصاد والتمويل الإسلامي
يشكل الوقف اليوم بلا شك رافدا من روافد التنمية الاقتصادية في حال تم استغلاله الاستغلال الأمثل، وتم توظيفه بالطريقة الصحيحة التي تليق به، وهنا لابد للقائمين على الأوقاف من النظار ونحوهم أن يكونوا على وعي تام بالأهمية والدور الريادي الذي يمكن أن ينوء الوقف بحمله، وهذا يتطلب وعيا بكل جديد في كل المجالات المتعلقة به سواء في جانب التثمير أم الإدارة، ولا أعني هنا بالإدارة الإدارة بالطريقة التقليدية بل باستخدام وسائل التقانة الحديثة.
وكما نعلم أن هناك مدارس متعددة لإدارة الوقف فبينما بعض الجهات تعتمد منهج الإدارة المركزية للوقف وتراه هو الأسلم لحفظها وصيانتها وضمانة ديمومتها واستدامتها، ترى المدرسة الأخرى أن اللامركزية هي الأنسب حيث إنها تمكّن الناظر والوكيل من اختيار أسلوب الإدارة الذي يراه مناسبا، لا سيما كونه الأدرى والأعلم بمصلحة الأصل الوقفي القائم عليه، ولكل مدرسة من المدرستين إيجابياتها وسلبياتها بلا شك، وليس هذا محل حديثنا في هذا المقال.
وسيكون الحديث في هذا المقال كما هو واضح من عنوانه في استخدام التقانة الحديثة وبالتحديد في مجال إدارة وتوثيق الوقف وتوزيع الريع ومتابعته، وهذا يتحقق من خلال تقنية البلوكتشين، فهذه التقنية جاءت لتكون قاعدة بيانات لا مركزية مفتوحة المصدر، ومن أهم الخدمات التي يمكن أن تقدمها البلوكتشين - ما يعرف بسلسلة الكتل- في مجال الوقف هي أنه يمكن إثبات ملكيات أصول الأوقاف بشكل رقمي غير قابل للتزوير، وأيضا إثبات الخلفية التاريخية لهذا الوقف متضمنا جميع الأعمال لتي تمت وكذلك النظّار الذين مروا على هذا الوقف وطريقة إدارته بشكل منظم ولا يقبل التعديل أو التغيير، وكذلك ربطها بجميع التعاملات السابقة التي تمت على الأصل نفسه.
وطريقة الحفظ في البلوكتشين في طبيعتها أنها غير مركزية، فكل أطراف النظام المشاركين فيه يكون لديهم السجل الخاص بذلك الأصل، وفي هذا حفظ من التلف ومن التلاعب كون الرقابة مفتوحة من الجميع في الاطلاع والمتابعة. كما أن بصمة الوقت الدقيقة في البلوكتشين تضمن الشفافية والمصداقية في العمل الوقفي.
قد يظن الكثيرون أن البلوكتشين مرتبط فقط بالعملات الرقمية، نعم هذا كان في أصل نشأة سلسلة الكتل لكن اليوم صارت له تطبيقات متعددة يمكن لكل القطاعات الاستفادة منه سواء الحكومية أم القطاع الخاص، ومن أبرز تطبيقات البلوكتشين التي يمكن للقطاع الوقفي الاستفادة منها:
١- إثبات وتوثيق المعاملات: فهو سجل رقمي مفتوح يسمح للجميع بالتسجيل فيه، وإدخال البيانات الكبيرة منها والصغيرة، حيث يمكن من خلاله تسجيل جميع التغييرات والتحركات مما يضمن المتابعة ويشكل رقابة ضد الفساد ويسمح بمتابعة أي ثغرة ومعرفة تفاصيلها.
٢- إثبات وتسجيل الممتلكات: يشمل المنقول من الأصول وغير المنقول، وحتى براءات الاختراع والملكية الفكرية، وهذا السماح بتسجيل هذه الأصول بمختلف طبيعتها يعطي ضمانة أكبر وطمأنينة لجميع الأطراف ذات العلاقة، ما يزيد من حجم الثقة، وهذه الأخيرة - الثقة - تمثل رأس المال الأهم والأصعب للمؤسسات الوقفية.
٣- التمويل العابر للقارات لأي مشروع وقفي: تتيح تقنية سلسلة الكتل تمويل أي مشروع وقفي في أي بقعة في الكوكب من أي فرد بكل سلاسة وبدون قيود، بل ويتميز بالكفاءة والسرعة في تحويل الأموال ومتابعة المشروعات.
٤- وبالمثل لما سبق، فإن سهولة توزيع الريع الوقفي على المستحقين في المكان الذي يختاره الواقف ولو في غير بقعته الجغرافية دون الحاجة للاصطدام بالتعقيدات لاسيما المتعلق منها بالتحويلات بين الدول ونحوه تعطي ثقة أكبر في متابعة سير ذالكم الريع ومعرفة طريقة صرفه بكل دقة وشفافية.
إن إجراء معاملات " الند للند" في تقنية سلسلة الكتل تسهل الإجراءات، وهي مجال رحب يمكن لجميع المؤسسات الاستفادة منه والمؤسسات الوقفية بشكل أخص تستطيع دخول هذا المجال، وهناك نموذج ناحج يمكن الاحتذاء به كما فعلت فنتيرا (Finterra) في تطوير سلسلة الوقف، وهي مثال أدعو القراء الكرام للاطلاع عليه.
وهنا على مراكز الأبحاث والمؤسسات الوقفية والجهات ذات العلاقة مجتمعة أن تسعى إلى أن تدرس وبجدية الفرص المتاحة للاستفادة من هذه التقنية، وتطويرها بما يخدم الاقتصاد الإسلامي عمومًا بمختلف مكوناته والوقف مع مراعاة الخصوصية التي يتميز بها، فذلك سيحدث نقلة نوعية ومواكبة للتطور في مجال العمل الوقفي، وقبل كل هذا يحمي الأصول الوقفية، ويوفر مجالا رحبا لتطويرها والاستفادة منها بما يتواءم مع طبيعة الوقف التي قررها فقهاء الأمة.