أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
تحتفظ بعض الأماكن والشواهد بجزءٍ مهم من ذاكرة العديد من العمانيين، لارتباطهم بها، وترددهم عليها، ولوجود العديد من الذكريات التي صُنِعت في تلك الأماكن والشواهد، ولعل (سوق مطرح) أو (سوق الظلام) كما يطلق عليه البعض، من الأماكن المهمة التي ارتبطت في وجدان العديد من زوّاره ومرتاديه، نظرًا لقيمته التاريخية، وللأنشطة المتعددة التي تمارس فيه، ولموقعه المتميز على خليج مطرح.
ونظرًا لأهميته، فقد كان هذا السوق محطةً مهمة منذ القدم للعمانيين من أجل أخذ (الميرة) التي يعودون بها إلى بلدانهم، ومن أجل بيع منتجاتهم المحلية، ومحطةً كذلك لزوّار عمان، ولأصحاب السفن الخليجية والأجنبية التي كانت تتوقف فيه وتأخذ منه الهدايا والصوغات وهي آيبة إلى بلدانها بعد رحلة سفرٍ طويلة بين الموانئ المختلفة، وكثيرًا ما شهدت مقاهي السوق توافد العديد من هؤلاء، وشهدت كراسيها وطاولاتها على نقاشاتٍ وصفقاتٍ تجاريةٍ مختلفة.
”أثير“ تقترب في هذا التقرير من بعض ملامح هذا السوق العريق، وذلك من خلال استعراض ورقة عمل للباحث الدكتور إسماعيل بن أحمد الزدجالي بعنوان (سوق مطرح في القرنين التاسع عر والعشرين الميلاديين)، تناولت التكوين المعماري لسوق مطرح، والعوامل التي حفّزته على القيام بدوره التجاري المهم، والأنشطة التجارية والحرفية التي كانت موجودة به قبل عام 1970م، والممارسات والأعراف التجارية التي كانت سائدة فيه.
التكوين المعماري لسوق مطرح
يذكر الباحث الدكتور إسماعيل الزدجالي أن سوق مطرح كان في بداياته عبارة عن ساحة مفتوحة تمتد من الميناء وتباع فيها البضائع الواردة إليه إضافة إلى البضائع المحلية كالحاصلات الزراعية والماشية ومنتجاتها، ثم أصبحت أسواقًا صغيرة كل سوق يختص بمهنة معيّنة، وبنيت المحلات من الحصى والطين وسعف النخيل وأخشاب الكندل والبامبو التي جلبت من الهند وشرق أفريقيا، ويتميز بممراته الضيقة المتعرجة والمسقوفة بالخشب وكثرة الأزقة والسكك التي تصطف عليها المتاجر التي تتميز بأرضية مرتفعة لحماية البضائع من الأمطار واستخدمت كمنصات لعرض البضائع.
سوق الظلام وخور بمبه
ويشير الدكتور الزدجالي إلى أن (سوق الظلام) و(خور بمبه) يعدان أقدم أجزاء السوق، ويمتد (سوق الظلام) من سور اللواتيا إلى خور بمبه، وكان في الأصل عبارة عن حجرات متفرقة من البيوت السكنية الواقعة داخل سور اللواتيا ثم حوّلت إلى مخازن للبضائع، وتدريجيًا زوّدت تلك المخازن بأبواب خاصة لتصبح دكاكين تطل على ممرات خارجية مسقوفة بالسعف مما يحجب أشعة الشمس في تلك الفترة التي لم تكن خدمة الكهرباء قد وصلت للمنطقة بعد، خصوصًا وأن المحلات كانت متقابلة وطرقها ضيّقة مما يحجب عنها ضوء الشمس ويقلّل من إضاءتها، وتتضاعف العتمة في المكان خلال الأيام الغائمة فأطلق عليه اسم (سوق الظلام).
أما (خور بمبه) الذي اقتبس اسمه من منطقة (بمبا) أو الجزيرة الخضراء في شرقي أفريقيا فكان يطلق عليه السوق الصغير وهو عبارة عن خليج تصطف المحلات على ضفتيه، وتعد أرضه أكثر الأماكن ارتفاعًا في السوق وتباع فيه البضائع المستوردة عبر الميناء، والتوابل، والبخور، واللبان، والحلوى العمانية، وغيرها.
بوابات السوق
كان لسوق مطرح بوابتان رئيسيتان هما: البوابة الرئيسة الواقعة في الجهة الشمالية والمواجهة لساحل البحر وتعرف باسم (الباب الكبير)، وبوابة من جهة الجنوب عرفت باسم (دروازة مطرح) التي كانت البوابة الرئيسة للسوق وكان ينتشر تحتها الباعة الجائلون الذين يعرضون بضائعهم من المنتجات المحلية المختلفة، ويمتد سوق الجملة على يسار دروازة مطرح في جانب السوق الشرقي، وتعرض فيه البضائع المستوردة من الهند والصين وفارس وشرقي أفريقيا التي يعاد تصديرها إلى مختلف أسواق عمان والجزيرة العربية.
العرصة
يذكر الزدجالي أن سوق مطرح قد اشتمل على موضع بالقرب من بوابة مطرح يختص ببيع المواشي والخضروات والفواكه والمنتجات الموسمية كالرطب والمانجو وغيرها يسمى (العرصة)، وكان يفتح على فترتين: الأولى من بعد صلاة الفجر وحتى أذان الظهر، أما الثانية فتبدأ من بعد صلاة العصر وحتى أذان المغرب، وكان البيع فيه يتم عن طريق المناداة أو ما يعرف بالمزابنة.
الأنشطة التجارية والحرفية في سوق مطرح قبل عام 1970م
يشير الباحث إسماعيل الزدجالي إلى أنه مورست العديد من الأنشطة التجارية في سوق مطرح قبل عام 1970، من بينها:
تجارة المواد الغذائية:
يعد نشاط المواد الغذائية أكثر الأنشطة التجارية حضورًا في سوق مطرح نظرً لارتباطه بمعيشة الناس وتجدّد حاجتهم إليه بصورة يومية، فانتشرت محلات بيع المواد الغذائية في سوق مطرح وتنوعت بضائعها ما بين الحبوب والمعلبات المستوردة.
كما تعد ولاية مطرح هي الوحيدة التي عرفت محلات السوبر ماركت قبل سبعينيات القرن العشرين، حيث افتتح فؤاد جاسم اللواتي سوبرماركت (آسيا) إضافة إلى السوبر ماركت التابع للشركة الفنية العمانية المملوكة للتاجر موسى جعفر متواني وهي أول شركة تبيع الآيس كريم في عهد السلطان سعيد بن تيمور، وسوبر ماركت محمد علي ساجواني، كما عرفت صناعة المرطبات ممثلة في مصنع غريب أباد لصناعة المرطبات.
الاستيراد والتصدير:
كان سوق مطرح مركزًا للبضائع الواردة من مختلف البلدان والتي يتم توزيعها على كافة الأسواق العمانية، ويعاد تصدير الفائض منها إلى الأسواق المجاورة، وتجميع البضائع المحلية وتصديرها إلى مختلف الأسواق.
وقد تنوعت الأنشطة التجارية في سوق مطرح بصفته مركزاً رئيسياً لجميع أنشطة عمان التجارية ومنفذاً تسويقياً لصناعاتها الحرفية، وبرزت به أنشطة تجارية لم تكن معروفة فيما عداه من أسواق عمان وأغلب أسواق الجزيرة العربية مثل: نشاط الاستيراد والتصدير ونشاط الصرافة والوكالات التجارية، فجمع بين الالتزام بالأساليب التجارية المتوارثة في الأسواق العمانية وبين مواكبة كل ما هو جديد في عالم التجارة والاستثمار نظرًا لارتباط تجّاره مع العديد من الشركات العالمية فيما وراء البحار.
ومن التجار الذين كان لهم مكاتب استيراد وتصدير في سوق مطرح: عبدالحسين بن باقر اللواتي، وأمين بن مال الله اللواتي وموسى بن جعفر متواني وتركز نشاطهم في مجال استيراد وتصدير المواد الغذائية كالأرز والحبوب من الهند وتصدير البسور إليها، إضافة إلى شركة تاول المملوكة لأسرة الحاج محمد فاضل والتي صدرت تمور الفرض إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كما صدر باقر عبداللطيف أسماك السردين المجففة (القاشع) إلى ألمانيا وهولندا.
بيع الأدوية الشعبية:
نظرًا لندرة المستشفيات في عمان قبل عام 1970م فقد لجأ الناس إلى الطب الشعبي عن طريق التداوي بالكيّ (الوسم)، والأعشاب، فانتشرت محلات العطارة في سوق مطرح، وكانت بضائعها من الأعشاب التي ينمو أغلبها في أودية وجبال عمان، إضافة إلى الأعشاب المستوردة من بعض البلدان خصوصًا الهند كالقسط والكركم.
تجارة الصياغة:
تفرد سوق مطرح بصفته مركز عمان الرئيسي في مجال الذهب والفضة بحسب ما أشار إليه الباحث الدكتور إسماعيل الزدجالي، حيث استقر بها العديد من الذين امتهنوا هذه الصناعة وتركز أغلبهم في حي خاص بهم عرف بحيّ الصاغة الذي ما يزال موجودًا بمطرح حتى الآن.
تجارة الساعات:
حصل بعض تجار مطرح على وكالات بعض ماركات الساعات حيث حصل التاجر أحمد بن جواد فاجواني على وكالة ساعات أورينت اليابانية. كما حصلت شركة المحلات الشرقية المملوكة للتاجر محسن بن محمد اللواتي على وكالة ساعة رادو السويسرية، إضافة إلى وجود بعض المحلات التي كانت تبيع الساعات بالمفرد خاصة ساعة كاسيو التي كانت موجودة بكثرة في السوق.
تجارة الدراجات:
يشير الباحث إسماعيل الزدجالي إلى أنه بدأ ظهور الدراجات النارية والهوائية (السياكل) في عمان منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وذلك بعد حصول شركة كيمجي رامداس عام 1956 على الوكالة الفرعية للدراجات النارية من فئة (هوندا) من الفطيم في دبي، لذا فقد انتشرت محلات بيع الدراجات في سوق مطرح وتزايد الطلب عليها في تلك الفترة نظرًا لندرة وجود السيارات وصعوبة الحصول على الموافقة لاستيرادها، وعدم وجود الطرق المعبدة للسير عليها.
تجارة مضخات المياه:
تزايد الطلب على مضخات المياه في جميع مناطق السلطنة، حيث مثّلت حلًا عمليًا للمزارع العماني لسقي مزروعاته بواسطة تلك المضخات التي تعمل بالديزل، وتم استيراد أغلب تلك المضخات من المملكة المتحدة حيث اشتهرت في عمان باسم (المكائن اللندنية)، وجمهورية الهند، ومن أشهر تجّار مضخات المياه في مطرح عبدالله بن محمد الخنجي.
وعدا عن تلك الأنشطة فقد انتشرت أنشطة تجارية أخرى في السوق من بينها: تجارة الأسلحة التقليدية، وتجارة الأواني المنزلية، وتجارة العطور، وبيع التبغ والسجائر، وتجارة الحبوب وطحنها، وتجارة الحطب، وتجارة الجلديات، وتجارة بيع المنتجات الزراعية، وتجارة بيع الماشية، وتجارة منتجات الوقود والديزل، وتجارة قطع غيار السيارات، والصرافة، ومحلات التصوير، ومنتجات الصناعات الحرفية، وغيرها.
المطاعم والمقاهي
يشير الباحث الدكتور إسماعيل بن أحمد الزدجالي إلى أنه انتشر في سوق مطرح عدد من المطاعم والمقاهي المبنية من سعف النخيل والتي قدّمت بعضًا من الوجبات العمانية التقليدية والقهوة والشاي، إضافة إلى الباعة الذين كانوا يعدّون الأطعمة والحلويات العمانية في منازلهم ثم يأتون بها إلى الأسواق لبيعها مفترشين الأرض، و(المقهوين) الذين كانوا يتجولون في الأسواق والدلال في أيديهم يقدمون القهوة لزبائن السوق مقابل بعض البيسات. كما وجدت المخابز التي قدّمت لزبائنها العديد من منتجاتها مثل: خبز التنور، والسمبوسة، واللقيمات، والزلابيا، إضافة إلى محلات بيع المثلجات والآيس كريم الذي تم استيراده عن طريق الشركة الفنية العمانية التي أسسها موسى جعفر متواني في مطرح.
الأنظمة التي كان معمولًا بها في سوق مطرح
أشرفت بلدية مطرح التي أنشأت في عام 1939 م على سوق مطرح، وتمثلت مهامها في: تنظيف السوق، ومراقبة الأسعار، وجباية العشور المفروضة على البضائع، وكان للسوق مسؤول واحد هو رئيس البلدية يعاونه مجموعة موظفين كلٌ في مجال اختصاصه.
وكان لسوق مطرح حراس تدفع أجورهم عن طريق تجميع الأموال من تجار السوق يشرف عليهم عقيد السوق، وتشمل مهمتهم حراسة المحلات والمخازن (البخاخير) المخزّن فيها البضائع بحيث لا يستطيع أحد الدخول للسوق والخروج منه بعد أن يضرب المدفع مساءً.
أقيمت هبطات الأعياد في سوق مطرح وعرضت بها جميع مستلزمات الأعياد خصوصًا الماشية، وتقام ابتداءً من تاريخ 27 رمضان في عيد الفطر. أما في عيد الأضحى فتقام الهبطات ابتداءً من تاريخ السابع من ذي الحجة.
ويشير الباحث الزدجالي إلى أنه كانت هنالك عادة غريبة تقام في هبطة مطرح في يوم التاسع من ذي الحجة حيث يأتي بعض الناس بأولادهم ليطاف بهم في السوق على ظهر أحد الدواب والتي غالبا ما تكون من الحمير ويرفع دعاء خاص أثناء الطواف، وذلك اعتقادا منهم بأن هذا الولد سوف يكون له شأن كبير في المستقبل.
وعرف سوق مطرح نظام المقايضة (أي المبادلة بالسلع) وذلك لشح النقود في تلك الفترة. كما ساد أسلوب البيع في سوق مطرح بنظام المناداة التي حظيت بالإشراف المباشر من قبل الحكومة فنجد على سبيل المثال أن السلطان فيصل بن تركي صدر إعلانا بتاريخ 2 سبتمبر1901م بضرورة المناداة على التمور والبسور الواصلة إلى ميناء مطرح وعدم النقص من وزن البضائع في حال تعذر بيعها في ذلك اليوم والاضطرار إلى ترحيل المناداة عليها لليوم التالي.
المراجع
- الزدجالي، إسماعيل بن أحمد. سوق مطرح في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ورقة عمل مقدمة إلى ندوة مطرح عبر التاريخ، جامعة مجان، مطرح، 19 ديسمبر 2024.
- الزدجالي، عباس غلام، والسالمي، عبد الرحمن. مسقط ذاكرة عمان المصورة، بيت الغشام للصحافة والنشر، سلطنة عمان، 2015.
- العريمي، محمد بن حمد. الوالي إسماعيل، دار باز، مسقط، 2022.
- فلييرز، آلان. أبناء السندباد، مطبعة حكومة الكويت، 1982.