من كان يجزم بأن تاريخ السلطة لم يأت إلا بالدماء والحروب ، فهو مخطيء، بلا شك، وبالأخص إن لم يطّلع على التاريخ المشرّف لأهل عمان الذين أسسوا ممالك مزدهرة ،هناك في الشرق الأفريقي بالحب، والإحترام، والسلام، وحسن التعامل، والتسامح ، ونشروا الدين الإسلامي إلى الكثير من شعوب القارة السمراء .
ولا شك إنّ أرقى مراحل الحب في حياة البشر هو الزواج المقدّس الذي يذيب الفوارق، ويقوّي العلاقات الإنسانية بالمصاهرة التي تصل بالمودة إلى أجمل مراحلها .
ولا شك إنّ العمانيين كانوا أهل تجارة، وقيادة، وكانت زياراتهم لأفريقيا متواصلة منذ فترات زمنية طويلة، وأسسوا لهم هناك ممالك، وسلطنات ازدهرت بشكل كبير، وملحوظ وكانوا حلقة وصل بين تجار القارتين الآسيوية والأفريقية .
ويذكر التاريخ أن العماني سليمان بن نبهان بن مظفر النبهاني الذي هاجر من عمان ليستقر في كينيا وتحديدا في جزيرة باتي قبل عام 599هـ كانت تربطه علاقة ودّ، واحترام مع سلطان الجزيرة إسحاق بن محمد البتاوي ، وهو من نسل حكام المنطقة منذ القرن الأول الهجري ، وتقول المصادر التاريخية بأن سليمان النبهاني حينما وصل إلى الجزيرة كان ذا ثروة، وقد كان أول ما فعله عند وصوله أن أرسل الهدايا إلى سلطان باتي وكبار وزرائه ، كذلك قدّم بعض المؤن، والمساعدات لفقراء الجزيرة الذين أحبوا هذا العماني الكريم القادم من شرق الجزيرة العربية .
وفي ظل استقرار سليمان النبهاني في الجزيرة وازدهار علاقته الإيجابية مع السلطان إسحاق الباتي ترجم الطرفان هذه العلاقة الحميمية بزواج سليمان النبهاني ببتاوينا ابنت السلطان، فأدى هذا الحب ،وتلك المصاهرة إلى تنازل السلطان إسحاق عن الحكم فيما بعد لصهره العماني سليمان النبهاني سنة 599هـ ، ليصبح بذلك سليمان أول حاكم نبهاني لجزيرة باتي الكينية لتبدأ من هذا التاريخ سلطنة بني نبهان تلك السلطنة العمانية الإسلامية العربية التي تولت حكم ساحل شرق أفريقيا لمدة طويلة بداية من عام 599هـ وحتى عام 1229هـ ، وبلغ عدد سلاطينهم حوالي 32 سلطانا.
دولة بني نبهان في كينيا :
هنا سنكتفي بذكر أهم الحكّام النباهنة الذين حكموا جزيرة باتي الكينية، وازدهرت من خلالهم الدولة النبهانية ووصلت لأوج ذروتها .
السلطان محمد بن سليمان النبهاني (625 -650 هـ):
مثلما أسلفنا كانت البداية في عام 559هـ بيد المؤسس سليمان النبهاني الذي مات في عام 625هـ ، وخلفه إبنه محمد بن سليمان النبهاني في الحكم ، وهو أول من حمل لقب سلطان باتي، وقد كانت له منزلة رفيعة جدا في قلوب أهل باتي لكونه إبن إبنة السلطان إسحاق قريبتهم ، واستمر محمد في الحكم لمدة 25 سنة ، وحينما مات ترك ثلاثة أبناء وهم أحمد وسليمان وعلي.
السلطان أحمد بن محمد النبهاني ( 650 – 690هـ ) :
حينما مات السلطان محمد خلفه إبنه أحمد بالحكم ، ولكن البعض من أهالي باتي لم يرتضوه حاكما وزرعوا الفتنة بينه وبين أخويه ليدبّ الصراع بين أحمد ما جانب وأخويه سليمان وعلي ، وفي هذه الأثناء تدخلت والدتهم ا ، ونصحت إبنها أحمد بالصلح مع أخويه ليستقيم له الأمر في الحكم .
فاستدعى السلطان أحمد رجلا مسنّا حكيما كان صديقا لوالده، ويدعى علي بن عثمان بن سيف بن مظفر ليصلح بينه وبين أخويه ، فاستطاع فعلا أن ينجح بإقامة الصلح بين الأخوة المتصارعين وحلّ الوفاق بينهم ليسود المدينة مرة أخرى حالة الهدوء والسلام .
لقد كانت من أهم إنجازات السلطان أحمد النبهاني في باتي هو اهتمامه بتحسين إدارة وموارد الدولة وتنميتها ، وتعزيز الجيش بهدف توسعة ممتلكات الدولة مستقبلا ، كما أمر بتنفيذ الكثير من المشروعات التنموية، فأنشأ المزارع، وحفر الآبار، وبنى البيوت الحجرية، ونوع من مصادر الدخل في البلاد مما أكسب أهالي باتي الإستقرار المعيشي الذي أرسى بواسطته السلام في البلاد.
السلطان الفاتح محمد بن أحمد النبهاني( 690 – 740هـ ) :
حينما مات السلطان أحمد سنة 690هـ خلّف ابنين هما عمر ومحمد وابنتين هما موانا خديجه ، وموانا ميمي ، وقد آل الحكم من بعده لإبنه محمد وهو أول من تلقب بلقب ( بوانا فومو مادي ) ، وكان يتميز السلطان محمد بجمال المظهر، وحسن التصرف، والكرم ، وكان يتمتع بحسّ قيادي عالي المستوى، واتّصف بحكمته ، وحنكته السياسية.
ولقد عمل السلطان محمد بتوسيع رقعة البلاد فاتجه إلى إخضاع الجزر الواقعة حوله، ففتح شانجا وفازا ومناطق قبائل الراسيني ، ومن ثم اتجه للسيطرة على الاقليم الممتد من شمال باتي حتى مقديشو في الصومال، وكل المدن الواقعة في هذا الإمتداد ككيونجا وتولا وكوياما وماركة وكسمايو ، وأعلن السلطان محمد سيطرته وحكمه على مقديشو تلك المدينة المهمة في خط التجارة للسفن القادمة من عمان واليمن وفارس والهند .
السلطان عمر بن محمد بن أحمد النبهاني ( 740 – 795هـ ) :
حينما مات السلطان الفاتح محمد بن أحمد النبهاني سنة 740هـ تولّى الحكم ابنه عمر النبهاني الذي لقّب بـ ( بوانا فومو عمر ) ، ولقد ورث من والده الصفات القياديّة، والحنكة السياسية ، فواصل فتوحات الدولة النبهانية في أفريقيا ، وقاد جيوشه نحو التوسعة، فاستولى على الكثير من المدن الواقعة في كينيا وتنزانيا من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب بدءا من مدينة بانجاني وسعداني، وتانجا ، وكلوة وكريمبا لتدين له كل هذه المدن بالولاء والإعتراف بسلطنته، ونطاق حكمه حتى وفاته عام 795هـ .
وهكذا من خلال سيرة السلاطين العمانيين من بني نبهان الأوائل في شرق أفريقيا نجد بأنهم استطاعوا في الفترة الأولى من عهدهم أن يؤسسوا سلطنة عربية عمانية إسلامية مزدهرة بدأت عن طريق الحب والود وامتدت حدودها من مقديشو في الجنوب حتى موزنبيق في الشمال فارضين حكمهم فيما بعد على منطقة ساحل شرق إفريقيا بأكمله .
المرجع : الهجرات العمانية إلى شرق إفريقيا ما بين القرنين الأول والسابع الهجرين ( دراسة سياسية وحضارية ) ، سعيد بن سالم النعماني ، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع( سوريا) ، النادي الثقافي العماني ، الطبعة الأولى 2012م .