سعدية مفرح
“بدأ الأسبوع ولك شقيق وشقيقة، وانتهى الأسبوع وأنت بلا شقيق وشقيقة، وأنت في الخامسة والستين تحمل ألف جرح بعضها ينزف وبعضها جف وبعضها يتكون، وتشعر بإرهاق يملأ جسدك وروحك”.
من هنا.. من هذا الأسبوع المتخم بالخسارات الشخصية بدأ غازي القصيبي، كما يبدو، بكتابة مقالة طويلة التي تحولت إلى كتاب بمائة صفحة عنوانه “المواسم”.
وتبدأ مواسم القصيبي وتنتهي بتلك الجروح النازفة والجافة حزناً على حزن وكآبة تفضي إلى كآبة، لكن اللغة الشاعرة تخفف من ثقل المواسم وتصفي كدرها حتى ليشعر القارئ وهو يسترسل في قراءة الكتاب صفحة بعد صفحة أو موتا بعد موت وكأنه يتدحرج من قمة جبل الى سفحه متقلبا ما بين الخوف والرجاء والمتعة والقلق! والقصيبي يعرف جيدا كيف يغلف أحزانه الشخصية التي كتب عنها في ذلك الكتاب كما لم يكتب من قبل ومن بعد، بغلاف رهيف من ورق السوليفان ويزينها بشريط لامع مما يزين به الهدايا المغلفة بأناقة ويقدمها لقارئه مع ابتسامة تقطر أسى على من ذهب ولم يعد من أهله وأحبابه وأصدقائه.
ولا يكتفي القصيبي بتسجيل ذكرياته مع خسائره الشخصية فيمن يحب بل يتجاوز ذلك إلى فلسفة الموت ومعناه فيناوشه على سبيل المحاولات من دون نجاح كبير!
لا يمكن لمن يقرأ كتاب “المواسم” الموغل في الحزن واللوعة إلا أن يشعر بإرهاق يوازي إرهاق الكاتب نفسه وهو يكتب وكأنه يزيح عن روحه الكدر الذي أحاق بها، ويروي قلبه بمياه جديدة غير تلك المياه التي مرت بمواسم الموت في حياته.
كتاب “المواسم” ليس من أشهر كتب غازي القصيبي رحمه الله، ولا يكاد يعرفه أحد من غير مريديه وقرائه المخلصين، ومع هذا فأنا أراه أحد أهم كتبه على الإطلاق. فهو الكتاب في فكرته وسلس في أسلوبه وآسر في لغته.
وبالرغم من أن “المواسم” يتناول موضوع الموت، من خلال رؤية القصيبي له وهو يحصد أقرب الناس إليه واحدا تلو الاخر، إلا أنه لا يبعث على التشاؤم كما يتوقع الكثيرون بل يرشدنا إلى الأمل من خلال بوابة النهاية التي تبقى مشرعة رغم نذر الرحيل وإشاراته الكثيرة.
ويمكن اعتبار المواسم في قراءة أخرى بطاقة تعريفية لغازي القصيبي نفسه، وعلى كل من يريد التعرف عليه عن قرب، وخلال أقل من ساعة واحدة، قراءة هذا الكتاب الصغير العميق والذي كتبه قبل رحيله بسنوات قليلة وكأنه يودع حياته به فيخاطب نفسه: “وأنت في الخامسة والستين تشعر انك غصن بقي بمفرده على الشجرة. طائر رحلت الأطيار وتركته عاجزا عن اللحاق بها”. لكن القصيبي وبعد أربع سنوات من شعوره بذلك العجز لحق بأطياره الراحلة فعلا، في موسم من مواسمه التي لم تكتب، فلا تصلح كل مواسم الحياة للكتابة ذلك أن بعضها مما يعاش فقط، وبعضها مما يكتب فقط، وبعضها مما يقرأ فقط.. وبعضها مما يبقى في الذاكرة وحسب!