أثير: سعدية مفرح
للسنة الثانية على التوالي يغرقني مهرجان أثير للشعر العربي بفيوض الشعرية في أحدث تجلياتها المعاصرة. فعلى مدى أربعة شهور متواصلة قرأت ما يقرب من مائة مجموعة شعرية تمثل ثلث المشاركات التي تقدم أصحابها للفوز بجائزة أثير للشعر العربي في دورتها الثانية، باعتباري واحدة من أربعة أعضاء يمثلون لجنة التحكيم لهذه الجائزة تقاسموا المجموعات المشاركة في ما بينهم، حيث لم يكد يمر علي يوم خلال الشهور الثلاثة الماضية من دون أن أقرأ فيه مجموعة شعرية وأكتب عنها رؤية لا تتجاوز السطور القليلة لمساعدة نفسي في نهاية الأمر على إصدار أحكامي النهائية بشأن ما قرأت!
لم تكن المهمة سهلة أبدا، ومثل كل مرة أكون فيها محكّمة في مسابقة ما ينتابني شعور بالخوف من الوقوع في مغبة ظلم أحد المشاركين من دون قصد مني، وهو شعور يظل يلازمني لفترة طويلة حتى بعد الانتهاء من أعمال التحكيم وإعلان النتائج! فالشعر، مثل كل الأعمال الإبداعية، من الصعب اتخاذ أحكام قطعية وواضحة ومباشرة بشأنه، والاختلافات الذوقية بين المحكمين حاضرة دائما، وما لا يعجبني مما بين يدي من مجموعات شعرية قد يعجب زميلي في لجنة التحكيم لو أنه وقع في يده، بدلاً مني، أي أنني قد أكون اسنبعدت هذا الشاعر أو ذاك من فرصة الفوز لمجرد أن مجموعته كانت من بين الجزء المخصص لي لا لواحد من زملائي الآخرين، وهذا يعني، أنني على الرغم من حرصي الشديد، وربما المبالغ به ، في القراءة وإعادة القراءة، وتعريض كا قرأت لكل الاحتمالات المعيارية النقدية الممكنة، ربما أكون قد ظلمت من حيث لا أدري ولا أقصد أحد المشاركين! لكن ما يخفف شعوري بذلك الخوف أن هذا من طبيعة التحكيم في كل الأعمال الإبداعية الخاضعة في أغلبيتها للذوق الشخصي بعد تساويها في الأسس والمعايير العامة وتحقيقها للشروط المبدئية المعلنة!
على الشعور بالحماسة الذي كنت أستشعره وأنا أخوض غمار المهمة، في هذه المسابقة، أو غيرها من المسابقات، يكاد يتفوق على أي شعورآخر، فلا أجمل من الاطلاع على تجارب شعرية فتية يتلهف شعراؤها لولوج المشهد الشعري العربي من خلال ما يكتبونه ويجترحونه من قصائد جديدة يرون أنها تستحق الفوز .. أي فوز!
يكفي أن أقلب بين يدي تلك المجموعات فأصر على أن الشعر ما زال بخير وصحة جيدة وأنا القصيدة ما زالت تحتفظ بمكانها ومكانتها في قلب الوجدان العربي، وأن الشعراء أحياء يرزقون الفرح والجمال والرضا والحب من بين تضاعيف الحزن والقبح والآلام والكراهية، وأن بيت الشعر ما زال يتسع لكل المكلومين والحزانى والحالمين بجنة في الحياة الدنيا!
كنت كلما توغلت في قراءة ما تدفق بين يدي من مياه الشعر طمعت بخصوصية الأصوات لأنحاز إليها فوراً ، فلا تغريني فخامة مسروقة ولا باحتيال المحتالين، ولا بلاغة مستعارة ولو برهافة الخائفين من الانكشاف، ولا جمالية مقلدة ولا باحتراف الموهوبين، ذلك أن الشعر هو الإبداع وهو البتكار وهو الفرادة وهو الأصالة وهو من قبل ومن بعد تلك الدهشة التي تتخلق بين يدي الشاعر كما يتلقاها المتلقي.. بالحرارة ذاتها!
ورغم أن تلك الدهشة لم تعد بضاعة رائجة في أسواق الشعراء الجدد، إلا أنها موجودة وإن بندرة لحسن الحظ. من قال أن الشعرية مشاع أصلا؟ أو أن على القصيدة الشعرية أن تكون هي الفقرة الجماهيرية في برنامج ما يطلبه المشاهدون؟
سيحسب لمهرجان أثير للشعر العربي أنه التفت للشعر بتكريم جميل عبر تلك الجائزة السنوية الرفيعة في وقت التهافت على بريق الجوائز في مسابقات الإبداع الأخرى بأنصاف المواهب وأرباعها طمعا بما يرشح هنا وهناك من انحيازات رخيصة لسوء حظ الأدب والقراء والمبدعين الحقيقيين! وسنكون على موعد مع ليال أثيرية منتصف ديسمبر المقبل بإذن الله لاكتشاف المزيد والجميل والمدهش من الشعر والشعراء في مسقط القلب!