فضاءات

جمال الغيلاني يكتب: يا مارادونا..يا مارادونا

جمال الغيلاني يكتب: يا مارادونا..يا مارادونا
جمال الغيلاني يكتب: يا مارادونا..يا مارادونا جمال الغيلاني يكتب: يا مارادونا..يا مارادونا

جمال بن خالد الغيلاني

حزنت لرحيل مارادونا، ولا أدري هل كان الحزن نابعًا عن حب له شخصيًا، أم لقصة حياته الدرامية، أم لكونه أعجوبة رياضية متفردة شغلت العالم وعرفها سكان الأرض..

الحديث عن مارادونا مُحيّر؛ فهل أصف مهاراته وإبداعه داخل الملعب، أم أتحدث عن ذكريات مشاهدته يلعب وكيف أثّر فينا في ذلك الوقت، فحكايتُه مع الأرجنتين نسخة 86 ومع نابولي حتى عام 90 أشبه بقصص ألف ليلة وليلة؛ قصة البطل الذي يجترح المعجزات، وتكون نهايتها دومًا سعيدة، كقصص السندباد أو علاء الدين التي تحكيها الجدات على الضوء الخافت ويقع الأطفال في حبائل سحرها، لمارادونا سحر هذه الحكايات أو الأساطير نفسه..

كنا نتسمّر أمام التلفزيون مدهوشين بما يفعله بالكرة، فرجله اليسرى هي أعظم رجل لمستها، هذه الرجل كانت تستطيع التحكم وتوجيه الكرة بطريقة استثنائية وأقرب للسحر والخيال، فنخرج إلى الحواري أشبه بالمنوّمين مغناطيسا، نحاول بحماقة بريئة تقليد ما يقوم به، وينتهي بنا المطاف بالسقوط متألمين نتيجة انزلاق “سلايد” من مدافع الفريق الخصم الذي لا يرضى بوجود “مارادونيين” في ملاعب “مصباخ”. يومها كان الخروج من ملاعبه سليمًا إحدى بركات دعاء الوالدين..

نعود لمارادونا الذي حوّل ملعب كرة القدم إلى مسرح، وبات الناس يشاهدون المباريات، لا للتشجيع والوقوف خلف فريقهم المفضل فقط، وإنما للاستمتاع بما يقدمه هذا النجم، فمشاهدته كانت توفّر المتعة والسعادة وانفراج الهم، كما ظهر جمهور ثالث “مارادوني” لا يشجع أي فريق وإنما يؤازره هو فقط.

علاقة مارادونا مع الكرة مثل علاقة الطفل مع لعبته الخاصة التي يحبها ولا يرضى أن تفارقه ليلا أو نهارًا. ومنذ أن كان طفلا صغيرا كانت اللحظة التي تمس فيها قدماه الكرة هي لحظة السعادة والفرح، لحظة التجلي التي يتعاظم فيها هذا القصير على أقرانه في الملعب، ينسى فقره، ويتناسى “أسماله” البالية، وتوفِر له الكرة هذا العالم؛ فيصبح فيه بطلًا ينتزع آهات الإعجاب، ويكون محور الاهتمام ومدار الحديث.

مارادونا على أرض الملعب كان يُدرك أنه مدار الحب والاهتمام، لذلك كان يحرص على أن يُقدّم أجمل ما عنده، وكأن ما يقدمه من إبداعات كروية هو رسالة اعتذار لأسرته ولجمهوره عما يفعله خارج الملعب، وربما كنت مخطئا في استخدام كلمة اعتذار؛ فمارادونا كان يريد أن يرفع رصيد حبه عندهم حتى ينال غفرانهم على أخطائه خارج الملعب.

مارادونا كان حريصًا على الإبداع في نصه الكروي، حيث كانت الكرة بالنسبة له مثل القطعة الموسيقية للموسيقار، ومثل النص الشعري للشاعر، ينبغي على المبدع أن يُعطي أفضل ما عنده، وأن يسعى لانتزاع الآهات من الجماهير. مارادونا كتب أعظم نص كروي لأنه كان يلعب بروح الهاوي الذي يعشق الكرة، مارادونا يلعب بشغف الطفل الذي خرج من شوارع بيونس إيرس.. هو احتفظ بالسحر دومًا بداخله. ومع مرور السنين وعندما خذلته قدماه وجسده كان مارادونا بمجرد أن يدخل الملعب ويلمس الكرة يعود طفلًا، وتعود الابتسامة الطفولية ذاتها إلى وجهه..

وفي الختام ما أروع كلمات محمود درويش عن مارادونا :
مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟
وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمنّاه شهرًا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟
ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة..
يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟
ماذا صنعت بالمواعيد؟




Your Page Title