خاص- أثير
كاتب المقال: الشاعر العربي الكبير أدونيس
نشر الأديب العربي الكبير أدونيس خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.
مخطوطات هيّ بن بيّ
الورقة الرّابعة
I. المتن
لي صديقةٌ أحبّها كثيراً، مع أنّها مأخوذة بالسّياسة كثيراً. أخبرتني مرّةً، وكانت حزينةً، قالت:
« كلّ من يراني، يحاول أن يتقرّب إليّ. رِهانٌ حتّى الآن لم أدخلْ فيه. غير أنّني قلتُ يوماً لأحدهم في حديثٍ معه عن الموت وما بعده، أحبّ أنْ أتخيّل الجنّة، لا تِبْعاً لما يَصفها الرُّواة، بل تبْعاً لما يَصفها النّص الدّينيّ المؤسّس. وليسَ ذلك لكي أستمتعَ، بل لكي أرى، تخيّلاً، كيف تتحوّل الأنوثة بين يَدَيْ خالِقها، في تقلّباتها جميعاً، وأرى كيف يظلّ الجَسدُ شابّاً، فيما يَحْدَودبُ فوقه وحوله جسَدُ السَّماء.
ولكي أطرحَ في فضاء الجنّة الطَّلْق هذا السؤال: « هل حُبُّ الصّعود إلى الجنّة داءٌ ذكوريّ – أُنثويٌّ، لا دواءَ له إلّا الموت »؟
وما السرُّ في أنّ الموتَ يَحيا مَيّتاً، ويموتُ حيّاً في كائنٍ وحيدٍ واحدٍ هو هذا البائس العظيم الذي يُسمّى الإنسان؟ ».
– لكن ما علاقة السّياسة بهذا كلّه؟ قاطعتها ببرود.
لم تُجِبني. وتابعَتْ قائلةً:
– غداً، أوفي لقائنا القريب المقبل، نتابع حديثَنا.
***
ذكّرني هذا الحَديثُ بصديقةٍ ماتت.
كانت، قُبيلَ موتها، تأتي وتروحُ، ضاربةً في غبار الوقت.
وكنت كُلّما رأيتُها أسأل نفسي: ماذا يُمكن أن أقدّم لها؟ ولستُ أملك أكثر ممّا تملك هي نفسُها:
ذراعان مفتوحتان.
***
لا تغضب الغابةُ حتّى عندما تضربها العاصفة وتقتلع أشجارَها. والعَجَبُ أنّه في مكانٍ آخر، في مثل هذه الغابة نفسها، تتخاصمُ الطيورُ مع أجنحتها دائماً.
عندما « أسافر » تكون « أنايَ » معي، وأكون أنا نفسي.
لماذا عندما « أصل » تتغيَّر أنايَ، وتتغيّر علاقتي مع نفسي؟ أَهُوَ الزّمن؟ أَهُوَ الجسَد؟
ولماذا، في ضوء الأحداث والتغيّرات، يمزّق الزّمن نفسه الكثيرَ من تعاليمهِ التي أملاها على النّهار واللّيل؟
ولماذا يصمتُ الجسدُ غالباً؟
ولماذا يظهر، فجأةً – بين وَقتٍ وآخر ابن بطوطة آخر في صورة إمام – رحّالة، يحاول عبثاً أن يقنع أصدقاءه بأنّه عائدٌ لتوّه من زيارة مكّة؟
ألهذا أُمضي أيّاميَ المشتركة مع الآخرين في خصامٍ دائم؟
ألهذا كان العجل المسمّن – مكتوباً على الورق، غيره – مذبوحاً ومشويّاً؟
ألهذا كان المجاز في حربٍ متواصلةٍ مع الحقيقة؟
***
حَقّاً، حَقّاً،
لا تأبه أنثى النّحل لما يقوله ذكَرُ النّمل: نذرت أذنيْها كلّياً لما تهمس به خلاياها.
***
أعرف أنّ القصيدة التي كتبتها هذه الحيرة بيد الشمس على جسد هذا الصباح، كان قد قرأها سِرّاً آخر قُرّاء الشّعر: اللّيل.
II. الهامش
ليس للجناح، في التحليل الأخير،
إلّا صديقٌ واحد: الفضاء.
***
– اللّانهايةُ إضرابٌ متواصلٌ ضدّ النّهاية.
– …
– ألَا يصحّ أن نقول أيضاً:
« النّهاية إضرابٌ متواصلٌ
ضدّ اللّانهاية »؟
***
لم تعد الكلمة العربية قادرةً على السَّفَر إلّا داخلَ قَفَصٍ.
لم يعد هذا القفَصُ نفسهُ قادراً على أَنْ
يتنقَّل أو يتحرّكَ إلّا في قفصٍ آخر.
***
منذ المتنبّي،
لم يعرف حصانُ أيِّ شاعرٍ عربيّ،
كيف يُحَمْحِمُ في ميدان السّياسة.
***
غداً، تُقسِمُ الأرضُ أمامَ أصدقائها،
وسوف أكون شاهداً على ذلك،
أَنّها، بعد الآن،
لن تُعطيَ ثَدييها إلى شَفَتَيْ السّماء.
***
– مَن يعرفُ بلاداً يُشَيِّخُ فيها حَتّى الهواء؟
– أنا.
– مَنْ أنتَ؟