أثير – الروائي الأردني جلال برجس
سألتني قارئة: لماذا كتبت سيرتك وأنت في منتصف العمر؟ في الحقيقة لم يوجه لي قارئي الضمني هذا السؤال وأنا أغرق بالمعنى السردي في الطريق التي أخذتني إليَّ منذ البداية، وهذه هي المرة الأولى التي أكون فيها بمفردي، أمام رزمة من الورق لأشي بنفسي لها. حدث الأمر فجأة، تمامًا مثلما تحدث الزلازل، تغير شكل الشوارع، والبنايات، ودواخل البشر الذين شهدوا الكارثة، وتؤدي إلى حيوات جديدة؛ فالأوجاع زلازل، والبهجات أمطار لذيذة. لقد جاء قرار الكتابة فجأة حين تملكني وجع ما، وحين وجدتُني أتهيأ للهرب. في تلك اللحظة عاجلتني بسؤال لم أطرحه على نفسي من قبل، كأنني أدفع بنفسي إلى الاعتراف: لماذا تقرأ، وتكتب، وتسافر بكل هذا النهم الذي لا يخلو من الغرابة؟ هل يغريك الهروب، وهو يرسم لنفسه صورة في خانة الحلول السريعة؟ أم أنك من دون أن تعي تواجه أوجاعك، وأحلامك التي منذ عمر تطوق شمعتها بيديك لئلا تنطفئ؟ وتفتش عن أسئلة طالما احترت بالعثور على إجابات لها؟ في تلك اللحظة كانت صورة الإنسان الذي قدس الكواكب، والأجرام السماوية، والظواهر الطبيعية، حين لم يفهمها، ماثلة أمام عيني.
ومثلما قادني العجز عن الكلام ذات حادثة وقعت لي في بدايات الشباب إلى الكتابة، قادني هذا السؤال إلى (نشيج الدودوك). إن أعظم ما يحدث للإنسان أن يجد تاريخه الشخصي ماثلًا أمامه كمسلسل درامي، ينظر إليه من أكثر من بعد، يقلبه كأنه حيادي في لحظة فارقة. لحظة يتملكني فيها شعور بأن أتجنب ما وصل إليه (بورخيس) حين كتب قصيدته الشهيرة: (لو عشت حياتي من جديد)، شعور مشوب بالخشية من الندم، وضياع اللحظة التي لا تعرف في سياق الزمن إلا جهة واحدة في المُضي. في غمرة الكتابة كنت أنظر إلى النوافذ التي كانت تأتي لي برياح الوجع، والقسوة، والفشل، والخسارات؛ فأجد أنه ما كان عليّ إغلاقها، بل كان عليَّ أن أتركها تمر غير مكترث بصريرها. إنها النافذة التي يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، السري، بالمكشوف، الواضح بالغامض؛ إنها النافذة التي يحلم الإنسان بإغلاقها.
أمضيت عامًا من العيش معي على أرض الورق، من دون حاجتي للمخيلة التي أتعبُها حين أكتب الرواية. ثمة يد كانت تضع الأحداث قبالتي، ومن تلقاء نفسها كانت تتخذ أماكنها في البوح. وحين انتهيت من فعلتي، ورحت أقرأ ما كتبت، قلت في نفسي: ولمَ لا ألقيها إلى القارئ. إن أفراح الإنسان، وأحزانه، وخساراته، وتساؤلاته الوجودية واحدة، وإن المصائر مهما اختلفت أشكالها واحدة أيضًا. إن المضي إلى القارئ من دون محسنات، هو انتصار للحقيقة التي طالما سعينا إليها، من دون أن ندري أن علينا أن نعلن حقيقتنا أولًا.
لكن كتابة السيرة التي تتكئ على شيء من الجرأة في الاعتراف خطوة ليست هينة؛ إذ أنها تشبه مسير الكاتب نحو القارئ عاريًا، عريٌّ مقصده شكلًا من أشكال التطهر، والخلاص، تمامًا مثلما يخلع شخص ما ملابسه ليتخلص من الشوك بعد تجاوزه حدود حقل شائك سقط فيه من دون إرادته. تبدو الحياة في بعض الأحيان مثل ذلك الحقل، وما الكتابة إلا محاولة إلى الهرب منه. لقد كنت في غاية الخفة وأنا أستعيدني منذ لحظة الوعي الأول، خفة تشبه اللحظة التي تعقب البكاء. أعلم أن أدبيات السيرة منجز مهم للكاتب والقارئ على حد سواء، فالكاتب يخوض غمار مواجهة نفسه، بل حتى يربح مساحة جديدة من تأمل حياته بكل مستوياتها. أما القارئ فإنه يخوض غمار اكتشاف التاريخ الشخصي للكاتب، هذا التاريخ الذي يوحي للوهلة الأولى بأنه منفصل عن العام، لكنه فيما بعد سيجد الذاتي والموضوعي نتاج مشترك أدى به المصير الإنساني بكل تساؤلاته، وحيرته، وسعيه خاصة في اتساع رقعة الالتباس الوجودي.
إن الكاتب العربي نتاج بيئة مزروعة بألغام الخوف، لهذا يعلو الغموض ما ينشر من كتابات، وتتصاعد الرمزية أمام كثير من المحاذير، وإشارات المرور الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والفكرية. ولا أزعم في سيرتي الروائية هذه أني غير مكترث بتلك الإشارات، لكني مررت بقربها مغمضًا عيني، أمارس نوعًا من أنواع التجاهل. في الغرب هناك مساحة شاسعة من الحرية أدت إلى نشوء أدب الاعتراف، وبالتالي تجلت هذه الحرية في أعلى مستوياتها مما انعكس على الأدب بشكل عام، كما انعكس على المعيش اليومي.
لكنني في المحصلة كتبتُ سيرتي لأعرفني من جديد، وأختار طريقًا جديدة، ولا أدري هل ستكون خياري الصحيح، أم أنها ستقودني إلى مزيد من الأخطاء التي عرفتني بالصواب.