أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
قصص غارقة في الغرائبية والعجائبية وهي خليط من الواقع والحلم والكوابيس والهلوسات، وفهمت إشارة يوسف ضمرة في مستهلّ القصّ فما إهداؤه لهذا المتن “فالس الغراب” للكاتب المشهور إدغار الآن بو سوى تمهيد لمجموعة قصص شبيهة بأسلوبه المعروف به، خاصة القصة القصيرة “القط الأسود” التي امتدّت شهرتها إلى خارج موطنه واكتسحت العالم، إذ أنّ الكاتب الأمريكي عرف بكتابة الرعب وبمزجه الغموض والشر والظلام، وقد كانت حياته بائسة وحين مات عُثر على جثته مرمية في الشارع وما زال الغموض يكتنف سرّ موته إلى اليوم، على كلّ ..هذا فاصل كان لا بدّ منه ..ونعود الآن إلى يوسف ضمرة وعالمه القصصي…
لنبدأ بقصة “الحاوي” وخلاصتها أنّ ساحرًا تقليديًا متجوّلًا حلّ بقرية ساعة موت كبيرها، وعرض على الرجال ألعابه السحرية من نوع إخراج الأرنب من القبعة، أو يطيّر حمامة من كمّ عباءته، فذُهل الرجال لكنّهم تركوه بدون أجر، فلجأ إلى الصغار ليخبروا أمهاتهم بجوع الحاوي، ومن هذه اللحظة تنقلب كلّ المفاهيم، إلى درجة أنّ هذا الرجل الغريب، أمام دهشة الكبار يمتطي حصانا شبيها بذاك الذي كان يمتطيه كبير القرية ويرحل في البعيد، قصّة سريالية نقتطف منها هذا المقطع:
“..هم يتذكّرون أنّ كبير البلدة كان يركب حصانه بالطريقة نفسها، وقد لفّ جسده بالعباءة السوداء نفسها، وخز الرجل حصانه فانطلق يسابق الأرض، كما كان حصان كبير القرية يفعل ذلك، في اليوم التالي انتبه الناس إلى اختفاء حصان كبير البلدة، فأصابهم الخوف”.
في هذا الكتاب القصصي متن مغاير لما يكتبه يوسف ضمرة، صحيح أنّ للكاتب نزعته الغرائبية وأنّه يترك القارئ مرّات عديدة في التسلّل، ولكنّه هذه المرّة أطنب في عجائبية مستعينا بخياله الفيّاض، فكأنّه قرأ عدّة مجاميع قصصية سريالية وأراد فعلَ نفس الشيء في قصص مجموعته “فالس الغراب”، على كلّ ..وهو الكاتب المحنّك ذو الخبرة الطويلة في السرد القصصي، لا أعتقد أنّه يلهو بالكلمات ..ولكنّه يجرّب شيئا ما ..جديدا عليه فيه الكثير من الغموض والتعتيم إلى هذه اللحظة ومازلت في القصص الأولى وهذا انطباعي الأوّل وسنرى..
مثلا في قصة “حبّة خوخ” يخلق السارد من حبّة صغيرة طفت في وجنته، عوالم لا يصلها خيال، فمن عدم رؤيتها من قِبل الجيران والأصحاب إلى إجراء عملية عاجلة عليها، وتحوّلها إلى رأس أفعى صغير ..إلى أن ضرب نفسه بحجر كبير لكي يقضي على الأفعى:
“ركض هاربا وهو يصيح: (أفعى أفعى)، ثمّ توقّف لاهثا وأمسك بحجر كبير، وضرب رأس الأفعى، فسقط والدم ينبجس من وجنته غزيرا وقانيا”
ثمّة قصة في غاية الظرف والكياسة، يصالح فيها يوسف ضمرة نفسه وأسلوبه ولونه، وفيها طاقة كبيرة مخفية بين كلماتها ..تُفجّر العالم بالضحك، القصّة هي “زهايمر”، وفيها تلاعب السارد بمقولة “أنّ زيدا يضرب عمرا” بطريقة فيها الكثير من مفاهيمنا التي تربّنا عليها، وفيها كثير من الألم لكلّ من يعاني أو بدأ معاناة الزهايمر، إنّه بحقّ مرض مهين للإنسان ومربك لوجوده قبل موته المحتوم، تذكّر السارد شيئا واحدا من جملة ما غلّفه النسيان، المرأة القديمة التي أخبرته بأنّه سيصاب بالزهايمر وينّهي القصة كالتالي:
“وجدتها وقد كبرت، وأصبحت حبيسة المنزل بقرار طبّي بعد إصابتها بالزهايمر، دخلت عليها فحدّقت في وجهي، وتذكّرت وجهها الشهيّ الجذّاب، ابتسمت وهي تقول: هل أصبتَ بالزهايمر؟
قلت بهدوء: الزهايمر مرض اختياري، أليس كذلك؟
خرجتُ وأنا أسمع ضحكتها القويّة، ترجّ أركان الروح والبدن”.
الأمثلة على أسلوب جديد ينتهجه يوسف ضمرة في قصصه، مثلا قصة “الصرخة والملاك” يستهلّ السارد حكايته بلحظة مولده وعدم صراخه وتنبّؤ القابلة “هذا الولد إمّا ذا جاه ومال وسلطة، أو يكون على باب الله” واكتشافه لاحقا أنّ زوجته لم تصرخ عند ميلادها، وفي النهاية يطعنها بسكّين وتُختتم القصة، وفي خاتمة النزهة الرائقة في مجموعة يوسف ضمرة “فالس الغراب”، أشدّ على يديه كصديق قديم متجدّد، حظيتُ أكثر من مرة بالجلوس إليه في عاصمته عَمان وفي بغداد وتونس.