أثيريات

“الوعظ”؛ المنطلقات النفسية بين التعالي والرحمة

“الوعظ”؛ المنطلقات النفسية بين التعالي والرحمة
“الوعظ”؛ المنطلقات النفسية بين التعالي والرحمة “الوعظ”؛ المنطلقات النفسية بين التعالي والرحمة

مسقط-أثير

أعد المقال: فلاح الوهيبي، باحث في سيكولوجية التدين

لا يوجد شيء أخطر على المجتمعات الإنسانية من إنسان يملك فكرة مدمرة وقدرات خطابية عالية.

فلو نظرنا إلى التاريخ القريب والبعيد سنرى بوضوح هذا المعنى في القيادات السياسية والدينية التي جرّت العالم للحربين العالميتين بأفكار شمولية وعرقية وعنصرية موغلة في الخطأ، ولا يمكن أن تتقبلها المجتمعات المتحضرة؛ ولكن بسبب القدرات الخطابية لهذه القيادات استطاعت غرس هذه الأفكار المدمرة في صدر المجتمعات مما حركها للحروب والإبادات الإنسانية.

ولو تأملنا في تاريخ الإسلام القديم والحديث سنجد صورا مشابهة وبالغة التأثير للنموذج أعلاه ونضرب مثلا على ذلك (محمد بن تومرت) المتوفى عام 1130 م، فهو كان خطيبا مفوها ومتحدثا بارعا لكنه يملك أفكارا أقل ما يقال عنها بأنها أفكار مختلة، وهو من قاد ثورة أسقط من خلالها دولة المرابطين في المغرب العربي وقدم نفسه أنه (المهدي المنتظر) وأقنع الناس بقدراته الخطابية حتى تأثروا به واتبعوه بل قاتلوا تحت رايته حتى أقام (الدولة الموحدية)، وهذا النموذج وجدناه متكررا في التاريخ الإسلامي لمن يقدم فكرة منحرفة تدل على اعتلال نفسي واضح وجعل الناس يتقبلونها بسبب قدراته الخطابية التي تؤثر الأثر البالغ على الجانب النفسي.

لقد تناول علم النفس الاجتماعي الخطاب بطرق تحليلية منهجية مبينة قوالبه، وعلاقته بالمجتمع والأفراد، وتواصلهم المعرفي، وتأثيره النفسي المكون للقيم والثقافة المجتمعية؛ لذلك لابد علينا تشريعيا وإنسانيا أن نتعامل مع (الخطاب الجماهيري) ونعيد فهمه والانتباه لتأثيراته النفسية البليغة التي تحرك المجتمعات لدوائر الاختزال والصراع.

ومن أهم صور هذا الخطاب هو (الوعظ) ومصطلح الوعظ هو مصطلح شرعي ورد في كتاب الله وسنة نبيه (عليه الصلاة والسلام) في مواضع عدة، ففي القرآن الكريم ورد تصريف (وعظ) في خمسة عشر موضعا، ولكن عندما ننظر في سياق القرآن الكريم سنجد أن (الوعظ) في معناه الخطابي أتى في ثلاثة مواضع من كتاب الله كلها تركز على معنى نفسي عميق من الوعظ وهو (إظهار الرحمة) في الخطاب قدر الإمكان كي لا ينحرف الواعظ إلى نوازعه النفسية والاستعلائية فيستخدم هذا المنهج الخطابي في تغذيتها مما يؤدي لتأثيرات هدامة للأفراد والمجتمعات.

وفي الجانب المقابل لو أردنا أن ننظر للخطاب (الوعظي الاستعلائي) بطريقة تحليلية نفسية فلابد علينا أن نحتكم لثلاثية واضحة وهي أفكار الخطاب والفئة المخاطبة وآثار هذا الخطاب على الأفراد والمجتمعات.

وتحليل ثلاثية الخطاب الوعظي تشمل الأفكار كي تكون خالية من النظرة الأحادية للمخاطب فلا ينطلق الواعظ من بيئته وخلفيته الاجتماعية دون محاولة لتفهم تنوع الخلفيات الاجتماعية والنفسية والمعرفية للمجتمع، وكذلك عدم استخدام أسلوب الزجر لمن لا يتبنى رأيه ولا يجتمع معه على فكرته فينتج عن ذلك آثارٌ عكسية تؤثر على سلم المجتمع وتحقيق غاية التآخي ونبذ الصراع بين المسلمين.

ولو أردنا أن نضرب مثالا لتطبيق تحليل ثلاثية الخطاب الوعظي:

  أن يتبنى الواعظ فكرة أو رأيا يسع الخلاف فيه فيتعامل معه وكأنه لا يوجد أحد يتبنى غير ذلك الرأي، فيحتكم إلى خلفيته المذهبية والفقهية ويجعلها قياسا على كل المجتمع فيستدل بمن يتبنى رأيهم ويعظم أقوالهم متجاهلا لمن يتبنون خلاف رأيه من الأمة، فيقوم باستخدام لغة اختزالية بمصطلحات استعلائية تضفي سلطة للفكرة كي يفرضها على المخاطبين، فينتج عن هذا الخطاب الوعظي أمران خطيران: الأمر الأول هو تجييش الموافقين له الذين يشبهون خلفيته الاجتماعية والثقافية فيغذي فيهم الشعور بالاستعلاء على الآخر، مما يشرعن لهم التقليل من تدين من لا يوافق رأيهم، والأمر الثاني هو أن يعادي الذين لا يتبنون رأيه ولا يعظمون من يعظم قوله فتبدأ هناك مقاومة من هذه الفئة وردة فعل عكسية لخطابه الوعظي ينتهي إلى تجاوز الفكرة إلى دوائر الخلاف والعناد.

إن الخاسر الأول من هذا الخطاب هو دين الناس وإيمانهم لأن الدين صار موضعا للمزايدات والصراعات بين معتنقيه فضاع الهدف من التدين والغاية من الدين بتحقيق نعمة الأمن النفسي والتآخي بتجاوز الخلاف فالله سبحانه يقول في كتابه:

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )، وفي سياق هذه الآيات الكريمات من سور آل عمران نفسها يكمل القرآن الكريم سياق منظومة التآخي الديني (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

فيربط الحق سبحانه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنعمة التآخي؛ كي لا ينحرف المؤمن عن الهدف من هذه المناهج فينزلق إلى نوازع نفسه فيتعالى على المجتمع باستخدام خطابه الوعظي.

Your Page Title