فضاءات

حكايتي مع ” الورَّاق ، مقال للروائي الأردني جلال برجس عبر “أثير”

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- جلال برجس

هبطت ذات يوم شتائي إلى وسط البلد في عَمان؛ إحدى مفضلاتي المكانية في المشي بمفردي. أتأمل وجوه الناس، أنصت للضجيج، وأنصاع لروائح لا يعرفها الشقُّ المترف من عَمان. أفعل ذلك بحثًا عن صورة الولد القروي الذي كان يجلس على الربوة يحتضن رأسه بين كفيه ويحدق بالمدينة؛ فزارها بعد زمن، وأصيب بالحنين. إنها قراءة لا يمكن أن نمارسها على نحو جيد بمعية الأصدقاء، حيث تتعدد زوايا الرؤية؛ فتصير زاويتنا الخاصة مثل بالون تدفعه يدٌ في الهواء، بينما أيادٍ أخرى تنتظر دورها لتقوم بالأمر نفسه.
كانت وسط البلد في ساعات الظهيرة تلك، مثل أم ما إن أطل رأس الشمس على الكائنات بعد برد ومطر قاسيين، حتى راحت تستدرج الدفء مشرعة النوافذ والأبواب، ومخرجة كثيرًا من مقتنيات البيت قبالة أشعة الشمس الدافئة. تذكرت كيف كنا أنا وأخوتي نتدحرج على الفرشات الصوفية، وأكوام الوسائد، وأغطية النوم ملقاة في حوش البيت والشمس تطرد منها رطوبة فصل الشتاء. أرخيت بدني على مقعد على الرصيف، أدخن، وأتقلب بين ما تمده إليَّ يدُ الذاكرة، وبين ما أراه. بيوت صار بعضها مقاهي يهرب من نوافذها دخان (النراجيل)، وبعضها الآخر هجرها أهلها لأسباب منها العيش في الطرف الغربي من عَمان. استعدت ما قرأته لـ (باشلار) عن الأمكنة؛ فأخذت أنصت للأصوات العالقة في جدران البيوت، والساكنة في جنباتها. تخيلت نساء يجلسن في الشرفات، ورجالًا يقرأون الصحف، وفتيات ينظرن من بين الملابس وهي على حبال الغسيل إلى جهة تنهر القلب بيد البهجة.
مر بائع الصحف غريبًا أمام نهم العصر الرقمي بابتلاع كل شيء ملموس؛ فاشتريت جريدة، ورحت أتأمل عناوين تنبئ بتبدلات عالمية مرعبة. هاجمني الخوف، فتساءلت: ما الذي يخيفك في هذا العالم؟ في تلك اللحظات كنت أنظر إلى بيت فارقه ساكنوه، وأفكر بالبلاد بيتي الكبير، وبجسدي بيت روحي. قلت في سري: إلى متى ستصمد تلك البيوت ووحوش الزمن الجديد على حدودها؟
غادرت المقعد أمشي في زحام ازداد أكثر مع اتساع رقعة الشمس الدافئة. كانت أكشاك الكتب تعرض بضاعتها؛ فتأملت كتبي، ومضيت، ألتفتُ إلى الوراء بأمل، ثم تخيلت رجالًا يزيلون الأكشاك ويلقون الكتبَ في حاويات القمامة. عرجت على (مطعم أبو أحمد)، جلست إلى طاولة قرب النافذة، وفتحت دفترًا صغيرًا يرافقني دومًا، وكتبت بضعة سطور تشرح الفكرة، ثم أخذت أضع مخططًا أوليًّا، ومسارات للشخوص. حين انتهيت نظرت إلى الدفتر، وهو ملقى على الطاولة، ثم إلى أكشاك الكتب، والبيوت، والزحام، وإلى نفسي؛ فكتبت بين هلالين عنوان الرواية: (دفاتر الوراق).
بقيت لأشهر أتأمل الفكرة بلا انقطاع، وأجري تعديلات على المخطط، وإبراهيم الوراق يرافقني. كان عليَّ أن أتجاوز بابه، وأمضي إلى داخله؛ لأفهم من هذا الرجل الذي سيحكي رواية يكتبها في مصح نفسي، وأن أعرف وبشكل عميق رجلًا وحيدًا في مدينة صاخبة، يهرب متقمصًا شخصيات روايات أحبَّها، ووجد تقاطعًا بين عوالمها وبين عالمه الغريب؛ لهذا قررت أن أتقمص شخصيته، وأتخلى عن سيارتي، وأمشي بملابس رثة، وبإحساس كائن وحيد لا يعرف أحدًا في مدينة جاء إليها في بواكير طفولته. لم أكترث بنظرات كل من استغربوا سلوكي الجديد. تجولت في أماكن تنتمي إليها شخصيات الرواية. واجهت أبوابًا موصدة جرَّت عليَّ مشاكل لم تكن بالبال، وأبوابًا مشرعة عرَّفتني بالشارع، وأهله. كنت أجد متعة كبيرة في عيشي داخل الورَّاق؛ إذ بقيت لأشهر على هذه الحالة من التقمص، إلى أن حدث ما حدث، وأنا أعود من عملي عند غروب ماطر. طوال الطريق من (المفرق) إلى عَمان كنَّا شخصًا واحدًا، تماهى بي، وتماهيت به أمام شمس داخلية حارقة بزغت لبرهة ثم تلاشت، يشكو لي وحشة الغروب، وكيف يهطل الليل ليسقي أشجار الوحشة. كان يقرفص في زاوية غرفة معتمة وراء بؤبؤيَّ، وينظر إلى الأشياء كيف تخبو ألوانها شيئًا فشيئًا أمام سطوة دهّان يجيء كل يوم في اللحظة ذاتها، ويمعن بالعتمة. وكنت من وراء بؤبؤيه أنظر إلى الشارع والعربة تلتهمه كأنه أفعى كونية تهدد سكينة الكائنات. يشكو لي عطشه للبهجة، وجوعه للسكينة. وكنت أشكو له حاجتي لحياة نبتةٍ على ضفة نهر تجري مياهه بهدوء رقيق. غنيت طوال الطريق بسري للوراق وهو يرخي رأسه على كتف روحي وينشج بصمت الذين ما تبقى أمام عتمتهم سوى شكل بعيد للأمل. قرأ لي قصائد لم أسمع بها من قبل؛ قصائد تشبه غناء رجال غامضين يهبطون جبلًا وفي أيديهم مشاعل في ليلة معتمة حد الخوف. لم يلاحظ أحد من ركاب حافلة العمل شيئًا عليَّ، ولم يسمعوا عما يحدث بيني وبين الوراق.
عند الإشارة الضوئية هبطت من الحافلة ورفعت ياقة معطفي اتقاء لنسمة الهواء الباردة وصعدت الشارع. لا أدري من فعل ذلك؛ أنا أم هو! كنت على الجهة اليسار، كنّا على الجهة اليسار، وأنا أعبر الشارع نحو اليمين وهو يغني لي بصوت تشوبه بدايات البكاء. ورمزي -المستريح من رحلة طويلة مع السرطان-يقود سيارته على الجهة اليمين. غامضة تلك اللحظة التي لا تتجاوز ثانيتين. كانت السيارة تسرع نحوي وشريط حياتي يمر أمام عينيَّ بسرعة خاطفة، يعرض صورًا، وينقل لي أصواتًا متداخلة. لا أدري من قفز إلى الوراء؛ أنا أم إبراهيم الوراق، لكنني أتذكر كيف طار الورَّاق معي في الهواء، إثر ضربة السيارة لجسدي، وأتذكر كيف أخذ بلهفة يتفقد يدي، ورأسي الذي ارتطم بالإسفلت، وكأنه يخشى على فرصة خروجه من تلافيفي السرية إلى بياض الورق.
أتت الصدفة بابني؛ فرأيته يقف عند رأسي وأنا ملطخ بالوحل، أنظر في وجهه مبتسمًا، وهو يمنعني من أية حركة في انتظار سيارة الإسعاف. كان إبراهيم الوراق ما يزال معي ويشير إلى مفازات جديدة في الرواية. في المستشفى طلبت ورقة وقلمًا، ودونت أمام استغراب الطبيب ما قاله لي الوراق، وحشرت الورقة في جيبي، واستسلمت للألم.
بعد أسبوع من الاستلقاء في السرير، وتلقي العلاج، بدأت بكتابة الرواية. وجدتُ أن نصف ما خططت له غير صالح للكتابة، وأن هناك مسارات جديدة خلقت لم أفكر بها من قبل. كنت أكتب يوميًا؛ أجلس إلى طاولتي من الساعة الثامنة مساء حتى الثانية عشرة منتصف الليل، أربع ساعات لي من يوم عمل أخرج إليه عند شروق الشمس، وأصل بيتي عائدًا منه عند غروبها. ثلاث سنوات أمضيتها برفقة الورَّاق، كانت كفيلة بأن تتشبث هذه الشخصية بي، وتقف حائلًا بيني وبين كتابة جديدة. شخصية لا حل للتخلص منها سوى اغتيالها من دواخلي؛ طريقتي في الذهاب إلى رواية جديدة. بعد صدور دفاتر الرواية تلاحقت طبعاتها بسرعة، ومضت في طريقها إلى العالم العربي. كنت أخشى أن مزاجها السوداوي سيقف عائقًا بينها والقراء، لكن معظمهم وجدوا أن الوراق وقف على خشبة مسرح الرواية وقال ما لم يقولوه.





Your Page Title