البساطة أداة اغتيال شعري أم أسلوب حياة؟

البساطة أداة اغتيال شعري أم أسلوب حياة؟
البساطة أداة اغتيال شعري أم أسلوب حياة؟ البساطة أداة اغتيال شعري أم أسلوب حياة؟

أثير – عبدالله العريمي

هل بساطة القصيدة أرض الجريمة الشعرية وأداة اغتيال، وهل الانغلاق التام هو ثبوتية للشعرية العالية، قد تهب البساطة حياة كاملة للقصيدة، وقد يخرج خيط الدم الأول من يد الانغلاق والغموض وعدم القدرة على التفسير، إنها لعبة بين البين تلك المنطقة الفاصلة بين الضوء والعتمة، المساحة الأمثل للقصيدة، لم أرَ دمُ القصيدة يوما يطارد نزار قباني وهو يقول:
تحدثي
عما فعلت اليوم
-أي كتاب- مثلا
قرأت قبل النوم؟
أين قضيت عطلة الأسبوع؟
وما الذي شاهدت من أفلام؟
بأي شط كنت تسبحين؟
هل صرت
بلون التبغ والورد ككل عام؟






القصيدة هذه الحسناء غير القابلة للتعريف والتصنيف تنتقي من خزانة ملابسها ما شاءت من ألوان لحضورها، وما شاءت من موسيقى لمرافقتها، دون أن تعكر صفو حضورها أسئلة ومعادلات كثيرة، تُسقط المعنى في هذا الوعاء اللغوي وفق سياق جمالي متصل يحيل العادي إلى شعري بامتياز، وقد تحتال أحيانا فتصور الأشياء على غير صورتها، المهم لديها هو صناعة الإلذاذ والجمال، وأن تكون قادرة على إقناع البرق وصغار النحل، والسياق الجمالي الواحد هو سيد الإثبات، يقول المتنبي في قصيدته التي يتداولها الناس عن الحمى:

يقول لي الطبيبُ أكلت شيئا وداؤك في شرابك والطعامِ

لولا السياق الذي رفع البيت إلى أعلى مدارج الشعرية، لظل إشارة في ورقة وصف طبية، أو ثرثرة فارغة بين عناصر الكلام، وبقينا نحن نحصي ضحايا القصيدة لدى أبي الطيب، ولولا إخلاصه لشعره واشتغاله الدائم على القصيدة لطال في القصيدة عمر الارتباك وسوء العلاقة بين وعيه وأعضاء جسده نتيجة الارتفاع المؤقت لدرجة حرارة الجسم، كما يقول الشاعر الفرنسي جاك بريفر:

كلنا نموت
الحمار يموت من التعب
والملك يموت من الضجر
وأنا أموت من الحب.



تعددت انشغالات الذهن وتباينت الهموم إلا أن الموت بصفته نتيجة حتمية بقي ثابتا وإن اختلفت هيئته وأسبابه، ضجر وحنين وخوف وحكمة مُتعِبة، واستقراء للعوالم الجوانية كل ذلك طرحه بريفر بهذه البساطة البالغة والوضوح التام، وفي جملة شعرية مفتوحة على التأويل وارتحال المعنى يقول أراغون مجنون الزا:

عيناكِ عميقتان
ولشدة عمقهما أضعت ذاكرتي


إذن لا يمكن أن تكون البساطة الظاهرة فُرْنا معدا للقصيدة، كما أن الانغلاق التام على الذات ليس وقتا زائدا أو ضوءاً مُبشرا بجماليات عالية، بل القدرة على صناعة الدهشة والجمال هو ما يبقي القصيدة على قيد الحياة، أن تكون القصيدة ساحة مكتظة بالورد المطمئن، خير من أن تكون معرضا مكتظا بلوحات الموت ودلالته، وأن تكون معرضا منظما بإتقان لأدوات الجمال خير من أن تكون ساحة للورد الميت، خلاصة الأمر هو أننا في بلاط القصيدة نظل في حالة ترقب دائم لإيقاع خطواتها الملكية لندرك هيئتها وأسلوب رقصتها الأخير على الورق بعد انعتاقها الموسيقي الأول.

Your Page Title