أثير- جميلة العبرية
الأم مدرسة، بما تحمله من قيم نحو أبناء مجتمعها، وسعيها الدؤوب إلى تعليمهم منذ الصغر؛ حتى يتمكنوا من حمل مشاعل العلم والمعرفة وخدمة وطنهم في مختلف المجالات.
اليوم نحن أمام قصة مُلهمة لمواطنة عُمانية، تخجل الحروف من وصف عملها الجبار، لكنها تحاول إبراز جزء مما قامت به، بعد أن آمنت بالعلم وقررت أن تنشره إلى أناس هم في حاجة إليه.
حديثنا عن المواطنة زهرة بنت سالم العوفية من ولاية الحمراء التي تبلغ من العمر 50 عامًا ، وهي أم لـ 7 من الأبناء “من رحمها”، ولـ 500 فرد لا يزالون ينهلون “الأمومة” منها عبر 22 مدرسة، وقد اُختيرت مؤخرًا ضمن أفضل 10 سيدات مؤثرات ورائدات على مستوى العالم العربي.
تتحدث العوفية لـ “أثير” عن البدايات فتقول ” لم أُكمل تعليمي الدراسي فقد تعلمت حتى الصف الخامس وبعدها تزوجت، إلا أن هذا لم يمنعني من تعليم نفسي وتثقيفها فاشتريت كتبًا وروايات عالمية وبدأت أقرأ ، وربيت أبنائي على حب العلم والمدرسة حتى أصبح منهم الطبيب والمهندس والمحامي ولله الفضل، وعندما كبر أبنائي أحسست بالفراغ وقلة المسؤولية وفكرت أن أفتح فصلًا دراسيًا في بيتي، فبدأت أعلم القرآن الكريم في شهر يونيو من عام 2007م مع بداية العطلة الصيفية، وكان عدد الطلاب لا يتجاوز 20 طالبًا وطالبة حيث كانوا يحفظون بسرعة فائقة مما جعل الناس يتداولون الخبر وبدأ عددهم يزيد حتى أصبحت غير قادرة على توفير المال اللازم لشراء الهدايا لتحفيزهم، وبعد ذلك فكرت في عمل مشروع بسيطٍ من المنزل في مجال الطبخ للحصول على المردود المالي ودعم مبادرة تعليم القرآن، فكنت أطبخ وأحصل على المال اللازم للتعليم، وقد بدأت المشروع في شهر رمضان، ومن شدة الحرارة كنت أتعب كثيرا حيث كانت تفوق الخمسين درجة أحيانا مما جعلني أفكر في أن أطبخ طوال العام وفي رمضان أعد وجبات بسيطة ولكن علي قبل ذلك أن أضمن التسويق فذهبت إلى مديرات المدارس الحكومية وطلبت منهن أن يخبرن المعلمات بأنني سأقوم ببيع وجبة الإفطار لهن ولله الحمد لقيت كل تسهيل وتفاعل من كل المدارس. وفي يوم من الأيام اتصلت بي إحدى مديرات المدارس وقالت لي أريد منك أن تعلمي الطلاب هنا في المدرسة عندما يكون لديهم حصص “فاضية” فقلت لها بعون الله سأبدأ من الغد”
وتكمل العوفية سرد تفاصيل حكايتها : “بدأت أذهب بشكل يومي ولاحظت أن الطلاب الذين جاؤوا من الجبل لا يشاركون كثيرًا وبعضهم ليس لديه ثقة بنفسه ولا يعرفون القراءة بشكل جيد فذهبت إلى مكتب المديرة وقلت لها أريد زيارة قرى الجبل فاستدعت السائق وبدأت أذهب لقرى الجبل بشكل يومي، وفي البداية صدمت مما رأيت؛ نساءً لا يعرفن القراءة ولا الكتابة وأطفالًا في سن الخامسة والسادسة لا يعرفون أساسيات القراءة والكتابة حتى أن الطالب يسجل في الصف الأول وهو لا يعرف مسكة القلم. بدأت أذهب بشكل يومي مشوارًا طويلًا مسافة 25 كم عبر طرق وعرة جدا ولمدة عامين كاملين، فأذهب كل صباح كي أعلم الأمهات في قرية واحدة”.
وتضيف: تعبت من المشوار كل يوم وفكرت في أن أطلب أحدًا لمساعدتي وقلت لهم هل يوجد هنا في هذه القرية بنات أنهين دراسة دبلوم التعليم العام فقالوا نعم فطلب منهم إحضار اثنتين، وبعد ذلك طلبت منهن أن يقمن بتعليم أمهاتهن وأخواتهن وأنا أكثف عملي في البيت كي أحصل على المال اللازم لأشتري الكتب وأدفع مستلزمات الدراسة وأدفع مكافآت شهرية للمعلمات. وافتتحت أول مدرسة في تلك القرية وبعد عام افتتحت مدرسة أخرى في قرية أخرى وبعد ذلك كثفت العمل في البيت وأصبح العائد أفضل، عندها وظفت جاراتي في مجال الطبخ لمساعدتي وبناتي أيضا بعد الدوام المدرسي يدخلن المطبخ لمساعدتي فأصبح عندي 6 كوادر مدربة يعملن معي في مجال الطبخ، ثم قمت بافتتاح المدارس حتى أصبحت الآن أدير 22 مدرسة تضم 35 معلمة وعدد الدارسات والدارسين فيها 500 طالب وطالبة في 22 قرية، وكل قرية تبعد عن الأخرى لمسافة تتراوح بين 3 كم و20كم”.
وتطلعنا زهرة على الصعوبات التي واجهتها فتقول: ” واجهت كثيرًا من الصعوبات والتحبيط والاستهزاء والسخرية والمشقة، لكنني واصلت مشواري فمن عملي هذا استفاد أناس كثيرون في مجال التعليم وفي مجال افتتاح مشاريع صغيرة تدر عائدًا ماديًا للأسرة، وزاد عدد النساء اللاتي يمارسن مهنة الطبخ للحصول على دخل ممتاز ومساعدة أنفسهن وأيضا استفدت بأن بناتي أصبحن يعملن معي في المساء في مجال الطبخ وأيضا من خلال مشروعي هذا فكرت في إحياء بعض الأكلات التراثية التي أصبحت مندثرة أو غير موجودة في قائمة الطعام لأنها تحتاج لوقت كثير لتحضيرها أو بسبب ظهور بعض الأكلات الجديدة في موائد الأكل العماني وهذا نجاح آخر وسبب لزيادة الدخل المادي”
وعن تفاصيل اختيارها ضمن 10 نساء هن الأفضل في العالم العربي توضح ” تلقيت دعوة من المنظمين للمؤتمر في بيروت وكان المؤتمر يتحدث عن دور المرأة في تنمية المجتمع وهو من 4 محاور: المحور الأول عن دور المرأة في التربية وإنشاء الأجيال، والمحور الثاني عن دور المرأة في صنع القادة، والمحور الثالث عن دور المرأة في التعليم، والمحور الرابع عن دور المرأة في تنمية الاقتصاد، وقد شاركت بورقة عمل تحدثت فيها عن مشروع محو أمية (أبناء قريتي مسؤوليتي) وكانت هناك نحو 25 مبادرة من مختلف أنحاء الوطن العربي ولله الحمد حصلت مبادرتي على المركز الأول”.
ولأن حديثها معنا كان في أيام يوليو المجيد، فإن العوفية اختتمت حديثها لـ “أثير” عن يوم النهضة العمانية المباركة قائلة: 23 يوليو هو يَوْم ولدت فيه عُمان ورأت النور بعد الظلام وتبدد فيها الجهل وبدأ نور العلم يشق طريقه بكل قوة، يوم تزدهر به عمان وهو يوم للاحتفال بمنجزات النهضة وأبسط مثال على ذلك وجود 12 مدرسة حكومية نظامية في ولايتي الحمراء بعد أن كانت 3 مدارس فقط في فترة الثمانينات”.
يُذكر أن زهرة العوفية توجت بالمركز الأول لجائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي 2017، وذلك عن مشروع “محو أمية أبناء قريتي مسؤوليتي”.