د.محمد المشيخي- أكاديمي وباحث متخصص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
نزل خبر وفاة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه على العمانيين كالصاعقة في الساعات الأولى من فجر السبت الموافق 11 يناير 2020م؛ إذ خيم الحزن والأسى أرجاء السلطنة من أقصاها إلى أقصاها. وفتحت مجالس العزاء في كل بيت من بيوت العمانيين في مشهد لم تعهده السلطنة منذ وفاة الإمام المؤسس أحمد بن سعيد البوسعيدي في القرن الثامن عشر الميلادي؛ وذلك بعد مسيرة حافلة بالإنجازات الكبرى للسلطان الراحل شملت كل زاوية من زوايا السلطنة، بل امتد عطاء النهضة العمانية للعالم العربي والأمة الإسلامية قاطبة.
وقد بكت قابوس عيون العمانيين، وكل من أحبه في العالم ؛ خاصة تأثير مشهد مراسم تشييع الجثمان الطاهر الملفوف بأعلام البلاد إلى مثواه الأخير ، محمولًا على أكتاف القادة الأوفياء الذين كانوا مرافقين له في يوم من الأيام، ثم أسند لهم رئاسة الأجهزة الأمنية المنوط بها حماية التراب الوطني المقدس لعمان ، وكذلك عضوية مجلس الدفاع الذي من مهامه الأساسية تسليم السلطة للسلطان الجديد ؛ حسب النظام الأساسي للسلطنة . إنه بحق منظر يدمي القلوب ويبكي العيون.
تجاوز الشعب العماني ومعه هذا البلد العزيز أحلك اللحظات وأصعب اختبار في تاريخ السلطنة المعاصر ؛ والمتمثل في تسليم أمانة الوطن للسلطان الجديد ؛ وما كان ذلك ليحدث لولا عناية الله بالشعب العماني الوفي ، وحكمة العائلة المالكة العمانية، وإخلاص وتفاني رجال قابوس الذين عهد لهم بقيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في البلاد؛ ففي ساعات قليلة أدار مجلس الدفاع والعائلة المالكة الكريمة عملية نقل السلطة حسب وصية السلطان الراحل (قابوس) طيب الله تراه للسلطان الجديد ؛ جلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد الذي توسم فيه الخير وكذلك الشعب العماني الذي استقبل الخبر بالسمع والطاعة، فهيثم بن طارق شخصية متميزة بكل المقاييس، فهو يتمتع بثقافة رفيعة وأخلاق حميدة يعرفها كل الذين تعاملوا معه عبر العقود الماضية في وزارة الخارجية؛ عندما كان وكيلا وأمينا عاما للوزارة ، ثم وزيرا للتراث والثقافة ورئيس لجنة الرؤية المستقبلية السلطنة 2040. هذه الرؤية التي كلفه بها السلطان الراحل منذ عدة سنوات ؛ وتهدف إلى نقل السلطنة إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد على الاقتصاد المعرفي وتنمية وتطوير الإنسان العماني. كما أن السلطان هيثم عاش في كنف والده السيد طارق بن تيمور الذي ينتمي إلى جيل المؤسسين للنهضة العمانية المعاصرة فكان سندا ومسهما في صنع الكثير من القرارات الاقتصادية والسياسية في البلاد ، بعد رجوعه للسلطنة ؛ بطلب وإلحاح من السلطان قابوس طيب الله ثراه؛ إذ تولى المرحوم السيد طارق العديد من المناصب القيادية خلال عقد السبعينات ؛ أبرزها رئاسة الوزراء.
وأهم التحديات التي تواجه السلطنة؛ هناك من يقول بأن أكبر تحد يواجه السلطان هيثم بن طارق ؛ هو قابوس نفسه بما يحمله من مناقب وصفات ، جعلت منه حبيب الشعب ، ومعشوق الجماهير وسلطان القلوب أثناء حكمه الذي امتد لنصف قرن؛ فالعمانيون أحبوا قابوس وأحبهم بلا حدود ، لكن هذا التحدي توارى خلف الستار بفضل وصية قابوس نفسه الذي اختار السلطان الجديد ليتولى الأمانة وسلمه راية الوطن ؛ لثقته به ووجود قواسم مشتركة بين السلطان الراحل والسلطان الجديد.
هناك صفات مشتركة تجعل من الشعب الذي أحب السلطان قابوس وأخلص له أن يحب خليفته السلطان هيثم ، بنفس الطريقة والمنهج الذي تعارف عليه هذا المواطن مع ولي الأمر؛ فالسلطان هيثم يملك مفاتيح النجاح التي تؤهله لتحقيق طموحات الوطن والمواطن في عمان ؛ فهو يحمل شهادة علمية عليا من أعرق وأفضل جامعة في العالم ؛ جامعة أكسفورد البريطانية ؛ كما أنه كان الأقرب للسلطان الراحل مما أتاح له ذلك الاطلاع على مختلف الأسرار والقضايا الكبرى التي مرت بالسلطنة منذ عدة عقود. وهذا هو المفتاح الذهبي الذي يفتح كل القلوب حول السلطان الجديد الذي أحب قابوس وأخلص له بطريقة لم نرها قط في الأسر المالكة في العالم قاطبة ؛ خاصة العلاقات التي تربط الملوك والأمراء بأبنائهم؛ فقد تجلى ذلك في أيام العزاء الثلاثة وما أبداه السلطان الجديد من رباطة جاش وصبر واحتساب هذا المصاب الجلل على الله، فقد شهد قصر العلم زحف جموع المعزين من مسندم إلى ظفار في منظر مهيب يعبر عن حب واعتزاز الشعب العماني وافتخاره بسلاطينه الميامين ؛ فطوابير المعزين التي امتدت من مطرح إلى مسقط ، لم تكن مسبوقة في مراسم العزاء في دول الخليج العربية ، بل وحتى في العالم بهذا الزخم ؛ إذ صافح جلالة السلطان هيثم عشرات الآلاف من المعزين فردا فردا واقفا لساعات طويلة للتحية والسلام على المواطنين ، وكذلك ملوك ورؤساء وأمراء دول العالم الذين شدوا الرحال إلى مسقط تقديرًا وعرفانًا لعمان وشعبها وسلاطينها.
أما الاختبار الثاني فهو الأصعب الذي يواجه السلطان الجديد ، ولا يقل أهمية عن التحديات الكبرى التي واجهت السلطنة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي مقدمة هذه التحديات هو إيجاد حل سريع ومنهجي لعشرات الآلاف من الباحثين عن عمل ، وقد ضاقت بهم السبل ووصلوا إلى وضع حزين ، وبحاجة إلى حلول سريعة نحو توظيفهم بشكل عاجل في القطاعين العام والخاص ؛ وذلك باتباع منهجية جديدة للتوظيف تختلف عن الطرق المتبعة في السنوات الماضية ؛ التي أثبتت عدم فعاليتها. كما أن قضية تسريح المواطنين العمانيين بالطرق التعسفية من الشركات العمانية والأجنبية التي تعمل على أرض السلطنة ؛ خيمت بظلالها على المشهد العماني واستفز هذا التسريح والطرد الرأي العام العماني بكل شرائحه خلال الشهور الماضية؛ فهذه الشركات قدمت لها الحكومة الدعم المالي ، ومدتها بالأراضي التجارية بقيمة رمزية ، بالإضافة إلى استفادتها من المرافق والبنى الأساسية منذ فجر السبعين .
فقضية توظيف الشباب واحدة من القضايا الكبرى التي تواجه العالم العربي من المحيط إلى الخليج، بل أحداث ما يعرف بالربيع العربي التي نثرت بذورها في الدول العربية في مطلع 2011 من أسبابها الرئيسية عجز الحكومات العربية عن إيجاد فرص عمل للشباب ، كذلك عدم تكافؤ الفرص للمواطنين في الوظائف المتاحة ، وتوزيع الثروة والمناصب في البلدان العربية. من هنا تأتي الحاجة الملحة لإعادة النظر في هيكلة الحكومة والنظام الإداري في السلطنة ؛ نحو ضخ قيادات شابة في مراكز صنع القرار ؛ لتكون بديلًا عن المسؤولين الذين عملوا واشتركوا في صنع القرار طوال عدة عقود.
فهؤلاء الوزراء قد قاموا بالواجب وأنهكتهم سنوات العمل ؛ وحان وقت الراحة والاستجمام ، ولهم التحية والتقدير على ما قدموه لعمان من أعمال جليلة.
وقد أشار بعض الوزراء إلى ترهل الجهاز الحكومي وعدم مواكبته للتطورات العالمية ؛ خاصة الثورة الصناعية الرابعة المتمثلة في العوالم الرقمية من حولنا.
ارتقت العديد من دول العالم في الشرق والغرب؛ باعتمادها معايير واضحة المعالم لاختيار القيادات الوطنية التي تقود دفة التنمية، وبوصلة الإنتاج في الوزارات والشركات الكبيرة ؛ عن طريق تحديد فترات زمنية تمتد من ثلاث سنوات إلى ست سنوات؛ لتحقيق أهداف المؤسسة المرسومة من الدولة والتي يجب أن تتحقق ؛ ثم يتم تقييم ما تم إنجازه من هذه الأهداف . ففي حالة نجاح الوزير أو الرئيس التنفيذي يستمر على رأس العمل لفترات قادمة، وتقدم لهؤلاء الحوافز المالية والمكانة المعنوية. أما في حالة الفشل ؛ فتتم المحاسبة ، ثم الإقالة من العمل. وهذا هو مبدأ الثواب والعقاب.
وفي الختام وجب تذكير الجميع من أبناء عمان الأوفياء أن مرحلة جديدة من مسيرة العطاء قد بدأت من أجل استكمال المشوار الذي بدأه السلطان الراحل طيّب الله ثراه لتحقيق إنجازات جديدة تنقل السلطنة وشعبها إلى أعلى المراتب في سلم الدول المتقدمة من خلال رؤية عمان 2040 التي أشرف عليها ووضع أهدافها الطموحة والواعدة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله.