فضاءات

عُمان أمانتُنا التاريخية؛ فما الذي ينبغي علينا أن نفعله لصونها والحفاظ عليها؟

عٌمان أمانتُنا التاريخية

خاص-أثير
إعداد: د. أحلام بنت حمود الجهورية، باحثة وكاتبة في التاريخ، عضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية العُمانية

الأمانة التاريخية مصطلح ورد في خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أعزّه الله- في فبراير 2020م، فمما جاء في خطابه السامي: ”لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرّف كياناً حضارياً فاعلاً ومؤثراً في نماء المنطقة وازدهارها واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عُمان للسلام تجوب العالم حاملة إرثًا عظيماً وغايات سامية، تبني ولا تهدم، تقرّب ولا تبعد، وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم لنؤدي جميعًا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية“.

إن قراءة عميقة لهذا المصطلح تستحضر دوراً حضارياً ممتداً ومتواصلاً لعُمان، وأثرًا وتأثيرًا للعُمانيين في محيطهم الجغرافي والإنساني، ولم يكن لهذا الدور أن يتأسسَ ولا لهذا الأثر أن يستمرَ لولا وجود عقيدة راسخة في وجدان العُماني الأصيل المحب لهذا الوطن الذي حمله معه فكراً وخُلقاً عبر البحار، مسخراً خبرته الملاحية في بناء جسور التواصل بين الحضارات والشعوب في أصقاع الأرض. هكذا وصف جلالة السلطان قابوس –طيَّب الله ثراه- بعضاً من جوانب الدور الحضاري لعُمان في خطابه السامي في 18 نوفمبر 1994م الذي خُصص عاماً للتراث العُماني، قائلاً: ”لقد أسهمت عُمان على امتداد تاريخها الطويل في صنع الحضارة الإنسانية، وكان لأبنائها جهد غير منكور في خدمة هذه الحضارة، فالموقع المتميز لهذا البلد الطيب والروح النضالية التي حملت العُمانيين إلى أقاصي الأرض يجوبون البحار ويمتطون الأخطار، فيلمسون بأيديهم ويشاهدون بأعينهم ويخالطون بقلوبهم وعقولهم صنوفاً من الحضارات وضروباً من الثقافات وأشكالاً متباينة من التقاليد والعادات... كل ذلك كان له ولا شك أثراً بارزاً في البناء الحضاري الذي شاده الآباء والأجداد وصاغته الأجيال المتعاقبة تراثاً حياً خالداً يجسّد ملامح التاريخ وملاحمه، ويعبّر بصدق عن التراث الباذخ للتجربة العُمانية الضاربة في أعماق الزمن“.

إن هذا البناء الحضاري الذي شيَّده العُمانيون عبر الحقب الزمنية الممتدة والمتلاحقة قام على أُسس متينة خلقت قاعدة سياسية واقتصادية وثقافية متفردة للعُمانيين، وبالرغم من تباطؤ البناء أحياناً لسنن كونية، فقد استمرت مسيرة البناء ولم تتوقف؛ لأن أداته هو الإنسان العُماني الأصيل المتوشح بتراب هذه الأرض. وفي هذا السياق، نستحضر شخوصًا عظيمة وضعت بصمتها، وأسهمت في تأسيس مفاصل هذا البناء الحضاري الممتد. فعلى مستوى البناء السياسي نجد أن هنالك أربع شخصيات كان لها دور مفصلي مهم في هذا التأسيس؛ وهم: مالك بن فهم الأزدي، والجلندى بن مسعود، وناصر بن مرشد اليعربي، وأحمد بن سعيد البوسعيدي.

ونبدأ مع مالك بن فهم الأزدي الذي انتصر في معركة وجودية مهمة في تاريخ عُمان وهي معركة سلوت -في القرن الأول الميلادي- التي تعد مفخرة من مفاخر التاريخ العسكري ليس العُماني فحسب بل العربي؛ فهي لم تقتصر على نحت أروع ملحمة في سجل تاريخ عُمان، وإنما شكّلت منعطفا مهماً في مسار التاريخ العُماني وهُوية الإنسان العُماني المعتز بعروبته وانتمائه؛ ذلك أن النصر الذي تحقق في هذه المعركة الحاسمة أسفر عن تحرير عُمان من الهيمنة الفارسية، وأعطى لهُويتها العربية بعدًا جديدًا.

أما الإمام الجلندى بن مسعود فهو مؤسس دولة الإمامة الإباضية في عُمان، وهي أول ديمقراطية إسلامية، ويعد حكمه بداية رفض التبعية للدولتين الأموية والعباسية، حيث كان للعُمانيين تحفظ شديد على سياساتهما. وقد كانت عُمان قبل هاتين الدولتين مستقلة استقلالاً كاملاً؛ فبعد دخول عُمان في الإسلام طوعًا ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم إدارة شؤونها لأهلها، وكذلك الحال أيام الخلفاء الأربعة، ومنذ تلك الأيام صارت عُمان قطرًا مستقلًا يحكم نفسه من قبل أبنائه، وصار له تكوينه الخاص في العالم الإسلامي. ومن أبرز سمات حكم الجلندى بن مسعود تحقيق الاستقلال الوطني للبلاد عن الحكم العباسي، ونشر العلم والعدل.

وثالث الشخصيات القيادية المؤثرة في تاريخ عُمان هو الإمام ناصر بن مرشد اليعربي الذي يُعد زعيماً وبطلاً عُمانيًا من الطراز الرفيع. قضى الإمام ناصر 24 عاماً من عمره من أجل وحدة عُمان وحفظ سيادتها؛ إذ أعدّ بعد مبايعته إماماً سنة 1624م برنامجاً وطنياً للوصول إلى مبتغاه، وعمل على توحيد صفوف العُمانيين وتشكيل وحدة وطنية قوية. وبعد تحقيق ذلك، سعى إلى التخلّص من الاحتلال البرتغالي لبعض السواحل العُمانية؛ فقام بإنشاء أسطول بحري قوي يتناسب مع القوى البحرية الأوروبية الموجودة في المنطقة. وكانت نتيجة هذا العمل الوطني المنظم طرد البرتغاليين بشكل نهائي من السواحل العُمانية في 23 يناير 1650م. ولم يكتفِ العُمانيون بذلك، بل سعوا لطردهم من الخليج ككل، وتحقق لهم ذلك في عام 1652م، وواصلوا ملاحقتهم في المحيط الهندي وصولاً إلى شرق أفريقيا، وتم تحرير آخر معاقل البرتغاليين في قلعة يسوع بممباسا في عام 1698م بفضل جهود العُمانيين.

وأخيرًا، نستحضر شخصية الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، الذي خُلّد اسمه في التاريخ كزعيم وقائد للحركة الوطنية العُمانية، استطاع استكمال هذا البناء الحضاري، وانتشال عُمان من مستنقع الولاءات الضيقة والمصالح المؤقتة من خلال تحقيق الوحدة الداخلية وطرد المحتل الخارجي ”الفارسي“. وقد حُظي أحمد بن سعيد بقبولٍ كبيرٍ لدى الناس؛ لعدله وحسن سيرته وإدارته، واستبساله في قتال الفرس، ومقاومته الحصار على صحار مدة 9 أشهر. فبعدما تمكّن الإمام أحمد بن سعيد من إعادة توحيد البلاد وإخماد الفتن الداخلية توجّه لإنشاء قوة بحرية كبيرة إلى جانب أسطول تجاري ضخم، وهو ما أعاد النشاط والحركة التجارية إلى الموانئ العُمانية، كما أعاد لعُمان دورها في المنطقة، وليس أدل على ذلك من أنه أرسل أسطولاً بقيادة ابنه السيد هلال يضم نحو مائة مركب تقودها السفينة الضخمة ”الرحماني“ في عام 1775م إلى شمال الخليج؛ لفك الحصار الذي ضربه الفرس حول البصرة في ذلك الوقت بعد استنجاد الدولة العثمانية، واستطاع الأسطول العُماني فك الحصار عن البصرة، وقد كافأته الدولة العثمانية بخراج البصرة فترة من الزمن.

إن من يقرأ شذرات من سِيَر هؤلاء الرجال الأربعة يدرك حقاً كيف أنهم أعلوا مصلحة الوطن فوق أية مصالح آنية ضيقة، وكان هدفهم الاستقرار والأمن الداخلي بتحقيق الوحدة الوطنية وتفتيت الولاءات الضيقة لرفعة الولاء الأسمى لعُمان فقط، فكان هذا الاستقرار هو الأرضية الصلبة التي أسست لنجاحات اقتصادية وعدالة اجتماعية رفلت تحتها عُمان قروناً طوال.

أما على مستوى الأساس الاقتصادي للبناء الحضاري لعُمان فيدرك المطلع جلياً ذلك الأساس في ثنايا المراحل التاريخية المتعاقبة، وإذا كان هنالك تقسيم لتاريخ العالم اقتصادياً ومدى إسهام العُمانيين فيه إنتاجاً أو تصديرا،ً فإنّ لعُمان حضور تاريخي بارز بفضل الموقع الجغرافي والخبرة الملاحية الممتدة والإمكانات اللوجستية المتوفرة؛ فهي أرض النحاس، وأرض اللبان، وأرض القرنفل، وتلك السلع وغيرها كانت بمثابة جسر تجاري بين عُمان والعالم. ويمكن استقراء الأساس الاقتصادي من خلال الأسماء التي عُرفت بها عُمان في المراحل التاريخية المختلفة؛ فاسم مجان ارتبط بما اشتهرت به عُمان من صناعة السفن وصهر النحاس حسب لغة السومريين؛ حيث كانت تربطهم بعُمان صلات تجارية وبحرية عديدة، وكان السومريون يطلقون عليها في لوحاتهم ”أرض مجان“. واسم مجان، يتألف من شقين في العلامات المسمارية التي كتبت بها هذه الكلمة، (ما) وهي تعني سفينة، و(جان) وهي هيكل، والمعنى الكامل لها ”هيكل السفينة“ وهذا يدل على شهرة عُمان في صناعة السفن. وقد كانت السفن العُمانية تجوب المناطق محملة بالبضائع التجارية، وأشهرها: النحاس وحجر الدايوريت.

واسم مزون ارتبط بوفرة الموارد المائية في عُمان في فترات تاريخية سابقة وذلك بالقياس إلى البلدان العربية المجاورة لها، وكلمة مزون مشتقة من كلمة ”المُزن“ وهي السحاب والماء الغزير المتدفق، ولعل هذا يفسر قيام وازدهار الزراعة في عُمان منذ القدم وما صاحبها من حضارة أيضاً. ورد اسم مزون خلال فترة الاحتلال الساساني لعُمان (224-629م)، حيث ذكر هذا الاسم في المصادر العُمانية كاسم أطلقه الفرس على إقليم عُمان. كما أطلق الفراعنة على عُمان اسم ”بلاد اللبان“؛ لأن عُمان مشهورة بإنتاج اللبان خاصة في محافظة ظفار.

باختصار، عُمان هي دهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومغوثة اليمن، وهو ما اختزله الجغرافي المقدسي (ت: 380هـ/ 989م) في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم بوصفه صحار عاصمة عُمان. ومن أراد الاستزادة لمعرفة كل شبر من عُمان وكيف أسهمت اقتصادياً فما عليه إلا أن يقرأ في كتب الرحَّالة والجغرافيين؛ ليدرك حقيقة ثابتة أن هذا البناء الحضاري كان الاقتصاد أحد أهم أدواته المحركة، وعندما تعثّرت حركة الاقتصاد في بعض المراحل بفعل المتغيرات الزمانية والمكانية، فإن مسيرة البناء تأثرت وتباطأت في نموها وتقدّمها.

وعندما نبحث في الأساس الثقافي والفكري وفاعلية الأثر والإرث؛ نجد أن عُمان قدّمت للحضارة الإنسانية العديد من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة التي أسهمت في إنتاج المعرفة، والرقي بالحضارة الإنسانية، وقد تم إدراج سبع شخصيات عُمانية ضمن برنامج اليونسكو للذكرى الخمسينية أو المئوية للأحداث التاريخية المهمة والشخصيات المؤثرة عالمياً، هي: العالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 170هـ/ 786م)، والطبيب راشد بن عميرة الرستاقي (ق: 10هـ/ 16م)، والطبيب والفيزيائي محمد بن عبدالله الأزدي المعروف ابن الذهبي (ت: 456هـ/1064م)، والمصلح الاجتماعي والموسوعي الشيخ العلامة نور الدين عبد الله بن حميد السالمي (ت: 1332هـ/ 1913م) والشاعر ناصر بن سالم الرواحي الملقب بأبي مسلم البهلاني، والملاح أحمد بن ماجد السعدي أسد البحار(ت: 906هـ/ 1500م)، والشاعر والمؤرخ حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت المشهور بابن رزيق (ت: 1291هـ/ 1874م). وتلك الشخصيات ما هي إلا غيض من فيض علماء عُمان الأجلاء العظماء.

ونحن نستحضر تلك الأحداث والشخوص من تاريخنا ومشروعنا الحضاري الإنساني الممتد ندرك تماماً أن ذلك لم يتحقق دون تضحيات جمة، دماءً وعتاداً، وندرك أيضًا عظم الأمانة وثقل المسؤولية في الحفاظ على ما تحقق والاعتزاز به. ونحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى حكومة وشعبا بالالتفاف حول إرثنا التاريخي كونه ”أمانة تاريخية“ تستدعي الحفاظ عليها واستكمال مسيرتها المشرقة في سياق مشروع وطني؛ لأن هذا المشروع هو مشروع عُمان اليوم وغدًا وبعد غدٍ.

إن المضي قُدمًا في صون الأمانة التاريخية يجعلنا نستحضر تاريخنا العظيم في كل محفل ومقام، ونقرأ دروسه بصوت عالٍ لأجيال عُمان الحاضرة والقادمة؛ كي نتجنب الأخطاء ونستدرك الهفوات مما حدث في الماضي، ويمدنا بقوة السعي لتحقيق المكانة في حاضر يمر بمتغيرات عالمية عدة، وتحولات كثيرة في مشهده السياسي والاقتصادي، سينتج عنه واقع مختلف يجب أن نكون مستعدين له وفاعلين من خلاله، وأن ننظر للمستقبل برؤية ثاقبة؛ لذلك ينبغي أن ندرك حقاً أمانتنا التاريخية ببعدها السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن نعمل جميعًا بكل عزم وإصرار استجابة لما أكده جلالة السلطان المعظم في افتتاحية مقالنا هذا: ”... لنؤدي جميعًا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية“. حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.

Your Page Title