فضاءات

العاشر من يناير .. ذكرى الرحيل الذي لن يرحل

العاشر من يناير .. ذكرى الرحيل الذي لن يرحل (mnalaraiami)

مسقط-أثير

إعداد: د.بدرية بنت محمد النبهانية، باحثة في التاريخ

يأتي العاشر من يناير ليطوف بعُمان أجمعها كيوم مختلف تماما، يوم لا ولن ينساه العُماني، ذاك أن حضوره يستدعي ذكرى رحيل الأب القائد والسلطان الهُمام، مؤسس الدولة العمانية الحديثة، حامل شعلة التطوير والتغيير، السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور(١٩٤٠-٢٠٢٠م).

إن دارس التاريخ والباحث في زواياه المختلفة تعيده هذه الذكرى الخالدة لمشاهد تاريخية سابقة، ولرموز كتبت اسمها بأسطر من نور، تُنير زوايا الذكرى وتديمها. لابد لنا في العاشر من يناير أن نستذكر سيرة السلطان الخالد في قلوب العمانيين وغير العمانيين على حد سواء، ليمر أمامه درس تاريخيّ في القيم والمبادئ الوطنية، وسيرة باذخة بالعِبَر الكثيرة لمن يعي أهمية دراسة الرموز التاريخية وأبعاد تكوناتها، ولن أنسى ذاك المهاجر العربي الذي التقيناه في توبنجن الألمانية قبل سنتين حينما سألنا من أين أنتم فأجبناه من عُمان، لتكون اجاباته وبكل تلقائية وببساطة :" أنتم من بلاد قابوس السلام”.

السلطان الخالد بالدروس العظيمة التي يجب على كل أسرة أن تتمثلها في تنشئة الأبناء، ففي سيرته -طيب الله ثراه- نجد الأسرة التي كانت لبنة تنشئته الأولى، وحيث كانت الأم الحضن الأول والمعلم الأول له، فظهرت كثيرًا مما يحكى عن والدته رحمها الله السيدة ميزون المعشنية حاضرة في شخص قابوس بن سعيد، وكما هو السائد لدى الملوك والسلاطين وكما نقرأ في تاريخ الأمم والشعوب عبر التاريخ، أنشأه والده السلطان سعيد بن تيمور (1932-1971م) وفق أسس ومبادئ تؤهله لقيادة بلاده بعد ذلك، فتلقى علوم الدين واللغة والتاريخ في بيته الأول، لتترسخ في نفس هذا الفتى اليانع قيم دينه ومبادئه، مؤطرة بتاريخ بلاده المُعتّق كما كان يصفه طيب الله ثراه، لينتقل للتربية بالممارسة، ليذهب ولي العهد لأخذ جرعته من العلوم الإدارية والسياسية والعسكرية التي تؤهله للمهمة المستقبلية، تلك المهمة التي ارتأى له والده فيها أن يتربى عسكريا ليواجه التحديات التي ربما استقرأها الأب ستكون محل تحدٍ لابنه الشاب مستقبلا، وفي هذا درس للآباء في تربية أبنائهم وفق رؤى تستشرف المستقبل، لا الحاضر فقط، وتسليح الأبناء بالعلوم التي ستكون ذات أهمية في زمانهم، ولهذا جاء الشاب المُعتزُّ بثقافة وطنه وتراث أجداده ليقرر أن عُمان تستحق أن تعود لمصاف الأمم والشعوب المتقدمة، فما إن عقد العزم قال لبلاده ها أنا قد أتيت لانتشالك من براثين الفرقة والشتات لنكون على كلمة سواء، متبعا منهج رسولنا الأكرم حين قال لأهل مكة ”اذهبوا فأنتم الطلقاء“ منهاجا ونورا لإعادة العُماني لأرضه وعزّته، فأعلن السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- في أول كلماته ”عفا الله عما سلف“، ليمضي بركب سلطنة عمان نحو الحداثة والتطوير مع حفاظه على الشخصية العمانية التي صقلتها وشكلتها التجربة التاريخية العمانية الممتدة لآلاف السنين في تاريخ البشرية.

خلّد السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – صفحة حياته الدنيا بأثر عظيم في شخصه قبل كل شيء، ففي هدوئه وحضوره وأناقته وسمته العربي الباذخ، في كلماته وعباراته الجزلى، في هيبة الخطوات والنظرات، كان قدوة وعزوة للعماني عزيز النفس شامخ الهيبة كريم السجايا، وبرز شموخ الرجل ومبادئه في جنازته، رحل جسدا لكن طيفه وصوته ما يزال حيَّا يطوِّقُ العماني في كل حالاته ومآلاته، فكانت عُمان كلها في العاشر من يناير 2020م قد تحولت لعائلة واحدة، يعزي أبناؤها بعضهم البعض في رحيل أب، وهو الذي رحل دون أن يترك ابنا أو أما أو أختا أو أخا يبكيه فبكته عُمان أجمعها، لنجد في ذلك اليوم كل العمانيين يصبحون أبناءه وأمهاته وإخوته وأخواته، وهذا كان الدرس الأعظم كيف للإنسان أن يعيش حياته خدمة للحظة وفاته، ولأثره الذي جعل من هذا اليوم ذكرى خالدة ما بقيت السماوات والأرض.

لم يكن يوم العاشر من يناير ٢٠٢٠م يوما عاديا ولن يكون عاديا في ذاكرة تاريخ عُمان، وسيبقى يوما تاريخيا لا نستذكر فيه نهضة عُمان الحديثة وتاريخ بانيها فحسب، وإنما نستلهم من الخمسين سنة التي قضاها بيننا دروسا وعبرا للحاضر والمستقبل، ولنكن على العهد والولاء لمن رأى فيه من السمات لقيادة السفينة في قادم أيامها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – ولنكن كما أراد لنا في وصيته متمثلا قوله تعالى :”وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”، رحم الله والدنا السلطان قابوس بن سعيد، وحفظ الله عُمان وشعبها تحت قيادة السلطان الملهم هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه-.

Your Page Title