أبجد

رشا الفوال تكتب: الذات الانفعالية بين الغربة والاغتراب في مجموعة محمد قراطاس الشعرية

رشا الفوال- شاعرة مصرية

قراءة أدبية من منظور نفسي

مقدمة لابد منها: على افتراض أن (المنهج النفسي) في النقد يشمل دراسة النشاط المعرفي الإبداعي الذي يتعلق بكيفية الإبداع أو دلالة العمل الأدبي، أو كيفية تأثر المتلقي بالعمل الأدبي؛ بمعنى أن المنهج النفسي في النقد يشمل دراسات الإبداع السلوكية من جانب، وفلسفة الجمال في العمل الأدبي من جانب آخر، ذلك أن علم نفس الوعى لا ينفي ما هو لاشعوري، وإنما يعده وعيًا آخر كامنًا يسمح بتعدد حالات (الأنا) لدى الكاتب، لكن الذي يهمنا هنا هو دلالة تعدد حالات (الأنا) من خلال السعي لفهم التناقض والتكثيف، في القراءة الحالية للمجموعة الشعرية “الأعشاب تفقد الذاكرة سريعًا” الصادرة عام 2019م عن دار نينوى بدمشق، للشاعر: محمد قراطاس، وفي إطار (فعلنة المعلومات) نستطيع أن نفهم العلاقة الوثيقة بين (الإدراك) و(الذاكرة) وبنيات الوعي وتعدد الذوات(1)؛ فـــ(الذاكرة) تمثل نظامًا ديناميكيًا يستقبل المعلومات ويفسرها وينظمها ويخزنها ومن ثم يسترجعها، والكتابة تسمح بوجود (الوعى الآخر) بجوار(الوعى السائد)؛ لأن الحالة النفسية الحاضرة للكاتب في قصائده شديدة الاتصال بالماضي؛ فهناك علاقة بين الزمن والصور لديه واللغة تمثل تآلف اللفظ مع دلالة الصور فنجده قد قام بصياغة الواقع صياغة تتناسب مع تصوراته وخضوعه لسلطة الزمن النفسي من خلال:

أولًا: التنغيم الهابط والحزن كعلامة سيميائية
على افتراض أن الانفعالات تصبغ الألفاظ بما يناسبها من التنغيم اللغوي؛ “فاللغة رابط حيوي ونفسي يربط الفرد بالمحيط ويمنحه الاطمئنان النفسي”(2)، ونحن في القراءة الحالية ندرك أن لكل شاعر سيكولوجيته الخاصة التي توضح مدى استجابته للمؤثرات الوجدانية(3)؛ نجد أن (التنغيم الهابط) في المجموعة الشعرية “الأعشاب تفقد الذاكرة سريعًا” يلعب دورًا أساسيًا في التعبير عن المعاني المختلفة لحالات الأسى في قول الشاعر: “هذا الوجود الذي يغتال فكرتنا/ يرمي السلام كما يرمي لنا الحتفا”، ويُعد باعثًا على الحركة والراحة في قوله “تمر قبائل الثورات وجهي، ويسكنني السلام، ولا سلام”، ودالًا على تلك الانفعالات النفسية التي تجري في ذهنه وعن انطباعاته عندما يقول: “يا أيها الملأ الذي يجتاز بي فوضى المشاعر والمنى والقافا، مدني تنام على الرصيف”، وعلى افتراض أن السيميائيات تهتم بكل مجالات الفعل الإنساني بدءًا من الانفعالات ومرورًا بالطقوس الاجتماعية السائدة، وانتهاءً بالأنساق الأيديولوجية الكبرى (4)؛ فكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانية من أهواء يشكل موضوعًا (سيميائيًا)، وإذا كانت سيميائية (الفعل) تهتم بالفعل في علاقته بالموضوع؛ فإن سيميائية(الأهواء) تهتم بـــ(الذات الانفعالية) في علاقتها بالموضوع (5)؛ لذلك نجد أن (الحزن) في قصائد الديوان يعد علامة سيميائية دالة على كثافة تجربة الشاعر العاطفية والإنسانية؛ ذلك (الحزن) الذي تحول إلى صور شعرية ذات طبيعة انفعالية؛ فالحزن مرتبط بـــ(الغربة) التي تجلت في قوله: “ريفي.. أمشي، وأجر حبال الغرباء” و(الاغتراب) الذي جاء بدلالة فردية تجلت في تفجير الانفعالات الذاتية كبؤرة متجذرة في صميم تجربته من خلال (الأسى) عندما يقول: “ريفي..لكني مغترب، تتساقط أمطار العزلة داخل صدري”، و(التنغيم الهابط المأساوي) الذي اتضح في حال انفتاح الشاعر على عناصر الطبيعة كقوله: “زعيمة النخل هناك تقول أنها حزينة”، كما جاء (الحزن) الدال في (المونولوج) المعبر عن الذات المأزومة في قوله: “ستمنع عنك الأكف الغليظة كل التمرد/ أنا المياه التي ضاق السحاب بها”، و(الحزن) كاستدعاء لكل أحزان العالم من خلال (الذاكرة) حيث استرجاع الصور المشحونة بطاقات الحزن من الخبرات الطفولية والتجارب العاطفية في قوله: “مساؤك بحارة يلمحون البلاد وقد أيقنوا بفوات الأماني”، و(الحلم) كفعل كياني في قوله: “بع ماتبقى من شباكك واشتر عكازة للحالمين/ حفرت بمقدار حلم قديم”، وفي تعبير الشاعر بأساليب الرفض والتمرد التي تجلت في الإحالة على ثقافة المجتمع، بالشكل الذي جاءت معه القصائد تمثل كتلة وجدانية واحدة حزينة تجلت في مراحل الحزن؛ فـــ(التأسيس) و(الاستدعاء) مراحل تجلت في(السكون) و(التنغيم الهابط) والوجوم الذي جعل ذات الشاعر مستعدة لإنتاج معاني الحزن و(استرجاع) الذكريات الحزينة والتماهي معها، و(الاستعداد) العاطفي لدى الشاعر جاء مرتبطًا بـــ(التخييل)؛ إذ أنه لحظة تتشكل فيها الصورة العاطفية فتثير النشوة والألم (6)؛ لنجد أنفسنا أمام (الحزن) كتجربة نفسية عبر عنها الشاعر بالمفردات التي تتسم بالأناقة، ومواصلة بث(اغترابه) و(غربته) عبر لغة تتسم بمركزية الذات معتمدًا على (ضمير المتكلم) وحركية الجمل الفعلية التي كشفت حالة من التدفق اللغوي الذي أفضى إلى بلاغته الشعرية؛ فــ(التوتر) أدى إلى (الاستهواء) ثم (الهوى) الذي نهتم بفهم مدى هيمنته على القصائد، والذي أسس لحالة من (الكفاية الذاتية) في نفس الشاعر، تلك الكفاية التي تمت ترجمتها إلى أفعال دالة على انفعالته.

أولًا: التنغيم الهابط والحزن كعلامة سيميائية


ثانيًا: رثاء الذات وثنائية (اللذة/ الألم)
على افتراض أن (الكتابة) تُفصح عن حالة الشاعر النفسية وانفعالاته التي يسعى جاهدًا للتخلص من سطوتها إذ “تتحدد الإحساسات من خلال اللذة والألم”(7)
فــ(الهوى) يُعد سلسلة من تلك الحالات الانفعالية التي تكشف المسار العاطفي لذات الشاعر؛ وكأننا إزاء محاكاة لثنائية (الموت/ الحياة)؛ فالإحساس بالغربة يولد شعورًا بالضعف أحيانًا، وقد ينقلب إلى الشعور بالقوة كاشفًا مجاهدات الشاعر وصراعاته التي صمد في مواجهتها من ناحية أخرى؛ لذلك من خلال تحليل (سيميائية الأهواء) في قصائد الديوان، نجد أن هوى(الغربة) كان له دورًا كبيرًا في الخطاب الشعري، إذ تأرجح التوترات بين الصمود أمام قسوة المخاطر وشعور الذات بالحيرة والقلق الذي اتضح في إنتاج المعاني في قوله: “يا لذة نغم صوفي، ياوطني مزقني شغفي”، ومركزية (الذات) التي اتضحت من خلال العودة إلى (الأنا) الفاعلة، وكأن الإحساس بــ(الغربة) يُعد معادلًا موضوعيًا للإحساس بــ(الاغتراب)؛ فالرغبة في المقاومة هى التي حولت الإحساس بـــ(الغربة) إلى امتلاك الذات لوعيها العاطفي الذي مكنها من تخطي (الاغتراب) وصولًا إلى الشعور بالاطمئنان؛ لذلك كان التلذذ بالحزن فجاءت مفردات (الألم) مضافة دائمًا إلى ياء المتكلم، لذلك استطاعت (ذات) الشاعر الانفلات من (استدعاء) الحزن إلى (التماهي) معه.

ثانيًا: رثاء الذات وثنائية (اللذة/ الألم)


خاتمة: الشاعر”محمد قراطاس” لم يترك للعرف السائد سلطانًا على عقله؛ فجاءت فلسفته ثائرة على المستوى (المعرفي) للمجتمع حين قرر أن يكشف للمتلقي عن إلهامه الفريد النابع من نفسه وممارسته للتأمل وتجريد الوقائع كمحاولة لسبر إمكاناته الروحية من أجل كتابة إنسانية متجهة نحو السمو وإدراك الأمور الروحانية، نستدل من خلال ذلك على أن (غربة) الشاعر هى التي صقلت معدنه؛ فتوحد معها وانطلق، فأبياته عن (الغربة) في الزمان، و(الاغتراب) في المكان لا تنبع من(الخوف) وإنما جاءت دالة على معاناته التي انعكست بصدق في صوره الشعرية، ليكتشف المتلقي أن تلك الصور الشعرية لا تصور حالة من اليأس والحزن فقط؛ وإنما تسعى إلى تجاوزهما من خلال اتباع (آليات الحلم)، ولأن روح الشاعر اصطبغت بالحزن الوجودي، كانت (الذاكرة) بمثابة وعاء المكابدات، هو الأمر الذي جعل القصائد أقرب إلى أن تكون (مرثية للذات)؛ فمرحلة الانفعال التي تجلت في إظهار الحزن من خلال معاني المفردات، جاءت دلالاتها في القدرة على مواجهة المواقف الناتجة عن قبول التحدي والقدرة على تغيير مسار العاطفة من الفرار إلى النجاة، هنا اتضح الوعى العاطفي للشاعر، وحال اليقظة الذي سيطر عليه؛ فبالرغم من مكابدة شدة الحزن وتحمل الإحساس بالغربة إلا أنه ظل صادقًا في البحث عن تفريج لمعاناته، وكأن الانفعال والتركيز على اضطراباته وتوتراته قسم الذات إلى (ذات مدركة) و(ذات حاسة)، وكأن الشاعر متعدد في كيان ظاهري واحد.

 

الهوامش:
1_ يحيى الرخاوي(1981)، “الوحدة والتعدد في الكيان البشي”، مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر
2_ مصطفى غلقان(2010)، “في اللسانيات العامة”، ط1، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان
3_ منير وهيبة الخازن(د.ت)، “معجم مصطلحات علم النفس”، تقديم: كمال يوسف الحاج، مطابع سيما بيروت
4_ محمد الداهي(2013)، “سيميائيات الأهواء”، مجلة سمات، جامعة البحرين
5_ منذر عياشي(2004)، “العلاماتيه وعلم النص”، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء
6_ Jacques Fontanille,(1999), Semiotique et Litterature, essais de method, Presses Universitaires de France.
7_ محمد الداهي(2009) “سيميائية السرد: بحث في الوجود السيميائي المتجانس”، رؤية للنشر والتوزيع، صــ62





Your Page Title