شعرية الحب والغياب في تجربة طارش قطن

شعرية الحب والغياب في تجربة طارش قطن
شعرية الحب والغياب في تجربة طارش قطن شعرية الحب والغياب في تجربة طارش قطن

أثير- طاهر خميس العميري

يشكل الحب في مقابل الغياب ثيمة عامة في واقع التجربة الشعرية العربية، فيأتي الحب رديفا للغياب أو نتيجة سببية له.

وهذه الظاهرة في القصيدة العربية تأتي من عمق تركيبة المجتمع العربي الذي ينتج ثقافته الشعرية أيضاً، والتي ليست سوى شكلاً من أشكال الموروث الثقافي الغائر في تشكله البعيد.

يحضر النص الشعري بوصفه مرآة جمالية ودلالية للحالة الإنسانية، متأملا جوانبها، ومتحسسا آلامها، ساردا هواجسها وانفعالاتها في ثنائية القرب والبعد، وما يكتنزه الحلم بأسئلته الكبرى في مقابل الواقع المتحرك الذي يترآى في أزمنته المتعددة.

إن التوتر الذي ينتجه الشاعر من خلال تأمله لتحولات المجتمع هو ما يعمق قيمة حساسيته للأشياء، والتي تظهر بصيغ جمالية مختلفة، مُشكّلة ظواهر شعرية ذات دلالات بصرية وحسية. وفي اللحظة اللاواعية التي تداهم فيها الشاعرَ القصيدةَ تحضر كل هذه المكونات لتبرق الفكرةَ شاقةً طريقها، مؤثثة دروب الإبداع ومرتكبة فتوحاتها الكلامية.

إن الكتابة قلق يومي وصراع لا نهائي مع اللغة في محاولة الشاعر اكتشاف مجرات جديدة في كون القصيدة الفسيح، والشاعر يعيش كل يوم مغامرة جديدة مع قصيدته، يجتاز طريقه نحو معرفة العالم وفهمه، والقصيدة هي من تنير له هذا الطريق. المعرفة في أفقها الواسع وانفتاح الكاتب على الأشكال الكتابية المختلفة؛ هو ما يجعل قصيدته مختلفة في رؤيتها.

لا يأتي هدوء اللغة إلا من رعب الإحساس بالزمن، والإصغاء للحياة وتأملها بصمت المستريب. حيث يركن الشاعر إلى الصمت في محاولة مواجهة قسوة الحياة. من أجل ذلك تأتي لغته عالية في حساسيتها وهدوئها وانسيابيتها. يحاول الشاعر أن يعيش بأقل الخسارات في الحياة متماهيا في حركة وسكون قصيدته متدثرا بعاطفتها ومرتطما بإيقاعاتها، سادرا في توهجها ومنسرحا في زمنها اللانهائي.

الذاكرة ثقب أسود يبتلع كل ما حوله، والشاعر الذكي هو من يستثمر كل هذه المكونات، فالقصيدة ذاكرة أخرى تحاول استيعاب ارتطامات الإنسان بالكون والحياة.

الأغنية بوصفها مدخلا للجمال
تشكل الموسيقى فلسفة في بعدها الجمالي، وذلك في قدرتها على التعبيرعن الجزء المخبوء في النفس البشرية، وما الأغنية إلا شكلٌ من أشكال التعبيرالذي يتقاطع مع القصيدة في مبناها الإيقاعي والموسيقي.


وقديماً “نظم شعراء الجاهلية شعرهم في جو غنائي مشبه لنفس الجوالذي نظم فيه اليونان شعرهم الغنائي فقد كان الشاعر يغني شعره، وقد يوقّع هذا الغناء بعض الآلات الموسيقية. وقد يقوم له بالغناء في شعره قيان وجوقات مختلفة ترقص وتعزف في أثنائه”(1)

وفي تجربة الشاعر أحمد مسلم قطن، المعروف باسمه الشعري (طارش قطن) ذلك التقاطع الملفت في مزاوجته بين كتابة القصيدة والأغنية. تتقاطع الأغنية مع القصيدة الشعرية في شكلها البنائي أو تفاعيلها العروضية، رغم تشبثها بشكلها النمطي الذي يتناسب مع اللحن والغناء، وفي تجاوبها مع الجمل اللحنية، الذي يعطي لها شكل الأغنية بقصر مقاطعها وسلاسة مفرداتها ومباشرتها في أحيان أخرى، وثبات أغراضها.

وقديما ارتبط الشعر بالغناء حيث ” نجد أبا الفرج الأصبهاني يشير إلى أن شاعرا جاهليا تغنى ببعض شعره من مثل السُّليْك بن السُّلَكة وعلقمة بن عبده الفحل والأعشى، وكان يوقع شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصَّنْج”(2) ” فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم”(3).

وليس ببعيد أن نعرف “أن وزن الشعر العربي كوزن غيره من الشعر، إنما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء. فالشعر في أول أمره غناء. ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع. أو قل بعبارة موجزة: فقد ذكر الوزن. والواقع أنا لا نعرف في تاريخ الأمم القديمة أن الشعر والموسيقى قد نشآ مستقلين، وإنما نشآ معا ونميا معا أيضا، ثم استقل الشعر عن الموسيقى فأخذ ينشد ويقرأ، وظلت الموسيقى محتاجة إلى الشعر في الغناء مستقلة عنه في الإيقاع الخالص، أو قل ظل الغناء نقطة الاتصال بين هذين الفنين”(4).

وفي حديثنا عن تجربة “طارش قطن” ندرك أنه فرد ضمن نسيج هذه المنظومة. هذه التجربة التي نتمنى أن تتوج بعمل شعري، يمكن للقارئ من خلاله تتبع نمو هذه التجربة الشعرية والغنائية وملاحقة هذه الروح الصادقة في عاطفتها وفي تأملها لمفردات الوجود حولها، من خلال لغة متفردة في خصوصيتها، تمتح من المكان فرادتها وتدفقها وعنفوانها لتصل بكامل عفويتها دون حواجز لفظية أو مكانية.

ورغم أن الكتابة في الأغنية لها خصوصيتها وفرادتها التي تقيّد شاعرها في نمط كتابي معين، إلا أننا ندرك أن “طارش” ينتصر لذلك التدفق الشعوري الصادق، ولتلك الروح القلقة التي تبحث عن توحدها واكتشاف الدفء في أماكنه المجهولة:
يئن الليل في صمته
انين الجرح باعماقي
ويلفظ اخر انفاسه
يبعثر كل أوراقي
رسائل شوق للذكرى
بها أرسم عذاباتي
وبنت افكاري العذرا
عنا آخر كتاباتي.
اتأمل شروق الصبح
ولا يظهر عليّا صبح
أتاريني بأعماقي
في أول مدينة جرح.







إنها الروح المعذبة التي تنشد الحب في سمائه البعيدة، رغم قسوة الليل وضجيجه، الذكريات الراكضة فوق عشب الأمل تتأمل الحب في تصاعده، والظلال في الطرقات والصبح الشاحب بحضوره.

” الشاعر يقذف قصيدته في المجهول”(5) يقول سركون بولص، فالعاطفة هي من تجر شاعرها إلى غاباتها وأحراشها، والقصيدة عند طارش تنطلق بكامل عفويتها وتلقائيتها حاملة معها سكينتها وصخبها وطرق تعبيرها، في محاولة للاشتباك مع العالم من خلال لغة تكشف نفسها لقارئها، ناصبة فخاخها السرية من دون مواربة، فهي لغة لا تستريح إلى القواميس ولا تأنس إلى الألفاظ الوحشية، بل تأسرتك بجاذبيتها وإيقاعيتها الخفية:

يا قلب صافي بياضه ما شكى عِلّهْ
تهدي السعادة وفي الاحزان وحداني


خليك مثلي على باب السلا واهْلهْ
من حيث ما الروح ألقاها وتلقاني


يحرص الشاعر”على أن ينظم شعره في أوزان قصيرة حتى يكون صالحا للغناء كما أصبح حريصا على أن تكون ألفاظه ومعانيه سهلة خفيفة قريبة إلى نفوس الناس حتى يسهل دوران شعره على ألسنتهم وشيوعه بينهم”(6)، وهذا ما نكاد أن نلمسه في هذه التجربة، حيث القصيدة تؤثث غرفها بالبسيط من الكلام، لكنها قصيدة توسع دائرة أحلامها وتطرح أسئلتها وتختار أماكنها التي ترتاح إليها، قصيدة لا تتقيد بقوانين مسبقة بل تختار قوانينها وتشق طريقها كقطيع من الكلمات:

تعال وعطّل الدنيا على شاني
وخلي الوقت يتبخر
أنا إنسان لا أكثر
انا محتاج أتغير
تجي نسهر؟!



أنا محتاج لك أكثر من الحاجة
أنا محتاج يلبسني الجنون
وآلبسك تاجة
ونتهور
تفاصيل الحزن نحرق
وكل أشيائنا نبعثر
ولا نفسر ولا نبرر
ما ليسَ
على بال البشر يخطر
نذوب نذوب للآخر
بهذا المشهد المبهر.






بين الأنثى والوطن تمتد سماء قلقة، يتشظى الشاعر بين هاتين المفردتين، وفي غمرة تشرده وتشظيه يتناثر بين مفردات الحب والغياب التي تتسع دوائرها فتجتاحه ربكة الثنائيات وتتقاسمه الطرقات في رحلة البحث عن بحيرة زرقاء يستريح إليها تعبه.
الغياب سفر آخر في مقابل الحب الذي يشدنا ويأسرنا إليه، ويأخذنا الغياب بمعانيه ودلالاته الكثيرة، كما أن الحب لا يستريح إلى المعنى البسيط، والشاعر لا يمكن إلا أن يمتلىء بمفردات الحب وصوره المتعددة، فهو أمام رؤيا ولغة حلمية تحاول تحريره من الواقع الملتهب.


في قصيدة طارش قطن نحاول استقراء علاقته بالمكان بما يمثله الغياب كمفردة تحاول تحريره من قسوة الزمن، فالشاعر لا يواجه المجتمع إلا بالحلم والرحيل، وإدراكه لرعب إيقاع الحياة بما تمثله كحقيقة صامتة ترفض التبدل أو التغيير، فتأتي قصيدة عالية في صراخها ورفضها كنهر يقتلع الأشجار أمامه:

أنا سافرت ودروبي عتم خلفي وقدامي
أنا سافرت وجْروحي مواني والهموم اقدام


إلى المجهول تأخذني الخُطى وادوس أحلامي
وأصعب شي للرجّال .. تموت بخافقه أحلام


إنها الجراح الملتهبة التي تحاول إدراك ما وراء الواقع، وهو كذلك الشعر الذي يولد من طول العزلة والصمت، وهي محاولة الانكشاف على الحياة بطرقها الواسعة والبحث عن سماوات أكثر زرقة و أكثر رحابة. ثمة سر يختفي خلف الضباب وثمة غربة قاتلة تتهشم فيها الأرواح الساكنة، فيقرر الشاعر أن يعقد موعدا مع الزمن يسافر فيه خلاله بحثا عن حياة أخرى بديلة، لكننا نتفاجأ أن شاعرنا يتشظى بين غربتين لا نهاية لهما:

رسمت لرحلتي نجمة وجمرة بْكف آثامي
عسى ألقى وطن يحضن عيوني المتعبة وانام


رحلت بكل ما فيني بحزني وشنطة اقلامي
سعالي ودلة الشاهي وأعقاب التبغ أكوام


رحلت بغربتي لغربة تضم احساسي الطامي
وتاخذني من الواقع إلى جنة من الأوهام


تعاظم فيني عملاقي يصّدر فكري السامي
وخانتني الرماح الموجعة في حارة الأقزام


هناك، ولا ذكرت الا هنا وسْنين آلامي
أرق، إرهاق يقلقني، توتر يغري الآثام


فخاخ اللغة وارتباك العاطفة
نستطيع التمييز بين مستوين في اللغة يراوح بينهما الشاعر في كتابة نصوصه، فهناك القصيدة بأخيلتها وصورها وانثيالاتها وهناك الأغنية بتدفقها وخفتها وانسيابيتها. تمارس الأغنية فن الإغواء من خلال اشتباكها بالموسيقى، وثمة علاقة خفية بين الشعر والموسيقى، هذا الإغواء بما تمنحه الموسيقى بجملها اللحنية من أبعاد جمالية تستنطق بها الكامن في الجمل الشعرية. فالموسيقى تجعل القصيدة أكثر عذوبة وأكثرإشراقا في قدرتها على تلمس الصوت الخافت خلف الكلمات. الموسيقى تستفز طيور الكلمات النائمة في أعشاشها وتجعلها تحلم بسماوات أكثر زرقة. ف”الغناء والشعر لونان من ألوان التعبير الإنساني ينبعان من معين واحد هو الإحساس”(7).


الشاعر في الأغنية يختار من الكلمات ألطفها وأكثرها سحرا وأوقعها جرسا. وغير بعيد حين نقترب من الأغنية في قصيدة طارش قطن ننتبه إلى نيزك يحاول أن يشق طريقه وحيدا في ضباب المجرات مرتطما بكواكب غير عابئ بما يحدثه من اختلال في سيرورتها، مانحا نفسه فرصة المغامرة واكتشاف المجهول في متعة الموسيقى والكلام.

في مجمل نصوص طارش الغنائية ثمة قاموس مشترك، حيث يشكل الحب والغياب ثيمة عامة، فتحضر مفردات تجسد حالة اللوعة والفراق والحاجة إلى الآخر، هذه الحاجة التي توقدها العاطفة فتعوي كذئب جريح، عندها تأتي اللغة ناصبة فخاخها محدثة ارتجاجاتها ومشرعة أحلامها، وكل هذا ليس سوى جزءٌ من نداء خفي يستجيب لحساسية الموجودات حوله.
تحضر مفردات من قبيل: “الزعل”،”جفا”،”وصل”،”التياع”،”دمع”،”فراق”،”بعد”،”غربة”،”لقا”،”بين” ..إلخ. تكشف هذه المفردات عن إرتباك عاطفي تصنعه حالة الغياب، حيث يعيش الشاعر بلا زمن معلقا أحلامه على واقع متخيل قد لا يبوح يوما بسره أو بوعده:
مازال في الروح عاشق في نشوته واندفاعهْ
يسري بكل البدن
ضاقت علينا الليالي والكون ضاق اتساعهْ
ولا وسعنا وطـن(8)



تفيض غربة الشاعر عن حدود كونه، فيقف وحيدا أمام مفردات الغياب محاولا البحث عن وطن بديل لأحلامه، يتأمل سماء مذعورة أمامه، مستنفذا جميع حلوله، ناثرا أغنياته في الريح والمنحدرات:
اللي حصل إني سنة راوحت في نفس المحل
خلصت علينا الحيل
لا رضى جابك ولاجابك زعل
ياللي بيدينك جميع الحلـول(9)



لا تكف اللغة عن نصب شباكها في أغنيات طارش، مانحة للعاطفة فرصة تدفقها وانثيالها، فتأخذُ بُعدا تأمليا آخر في محاولة تامل حالة الحب والغياب وانعكاساتها في مراياها المتعددة. يتحول الغياب أحيانا إلى حالة من التأمل الجمالي، تأمل المعشوقات في غيابهن البعيد. فتأتي القصيدة راقصة في إيقاعها تخفي شيئا من البهجة والجمال رغم قسوة البعد. فهن “فاتنات اللواحظ” اللواتي يتلذذ الشاعر بغيابهن وهن ” الرموش النواعس” بقسوتهن الجارحة وهو العاشق “المعلق” بين سماء جريحة وبين فتنة ناعمة:
فاتنات اللواحظ خاب من يشتكيني
عاشق الحسن مثلي يشتهي عْذابها
من سبب فعل عينك اشتكت لي عيوني
ليت لو هي عيونك تشرح أسبابها
سامح الله عيونٍ تجرح أحبابها



يارموش النواعس ليتكم ترحموني
ما يرد المحبة من فتح بابها
كيف وآنا معلق هكذا تتركوني
كل ما صاب روحي منّكم صابها(10).



المصادر:
1- شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي. دار المعارف.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.
4- طه حسين: في الأدب الجاهلي. دار المعارف.
5- سركون بولص: سافرت ملاحقا خيالاتي(حوارات). دار الجمل.
6- د. ليلى حرميّة: القيان والأدب في العصر العباسي الأول. الانتشار العربي.
7- نفس المصدر.
8- أغنية “قالوا وقالوا” بصوت الفنان أبو بكر سالم.
9- أغنية “شوف لي حل” بصوت الفنان أبو بكر سالم.
10- أغنية ” فاتنات اللواحظ ” بصوت الفنان عبدالكريم عبدالقادر.






*صورة الموضوع من برنامج خانات الذكريات*

Your Page Title