الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير”: نخطئ حتى بأحلامنا

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي الأردني جلال برجس

 

حلمت منذ الصغر بأن أدرس الطب في أوروبا، من دون أعي أن غرض هذا الحلم جاء مما فعلته بي حكايات عمي عزيز عن بلدان يحتفي فيها الماء بالشجر. بلدان لها حيوات تستحق أن تُعاش. بعد مضي سنين عليّ جنديًّا في الصحراء، وحين رأيت وجهًا جميلًا لها لا يراه إلا من يتفرس بقسوتها أولًا، أيقنت أني لا يمكن أن أكون طبيبًا، بل كاتبًا، وأن الحلم السري بالكتابة هو من قادني إلى توقي للسفر. وما كانت دراسة الطب التي حال القدر بيني وبينها، إلا طريقًا إلى ما أريد. لهذا بات هاجس الكتابة رفيقي اليومي في عمل أغيب فيه عن قريتي لأسبوعين.  هناك أحلام أبدية، وأخرى يخفت وهجها كلما تقدمنا في العمر. في أول العمر نعتقد أن ما نحلم به هو من سيرينا الجانب المبهج من الحياة، من دون أن ندري أنها أحلام مؤقتة، عجولة، متهورة رغم صدقها، تمامًا مثل الحب الأول. وحينما تدفع بنا السنين أمامًا تتبدل أحلامنا، تصبح أكثر بساطة، لكنها الأعمق، مثل رواية تكتب بعد أن عاركت صاحبها الحياة كثيرًا، وتركته ليستريح؛ فكتبها بهدوء وبساطة عميقين.

 

تحولت غرفتي في الصحراء إلى مكتبة. على الجدار علقتُ جدولًا قسمت سنوات خدمتي للقراءة، ففي كل قسم يمتد لسنتين أو أكثر أقرأ في إحدى الآداب. ابتدأت بالأدب الروسي، ووجدتني الأقرب إلى (ديستويفسكي)، ووجدت أفكاره، وأدواته في نبش النفس البشرية الأقرب إلى دواخلي. على الجدار كتبت مواعيد البرامج الثقافية في المحطات الإذاعية العربية والعالمية. كنت مستمعًا جيدًا للراديو في الليل. طالما دونت على الجدار ما خطر بالبال من عبارات شعرية في المنام، ورسمت عليه وجوهًا، وتخطيطات سوريالية؛ فعلةٌ أمَّنَت لي شيئًا من التوازن في لحظات أشعر فيها بترنح جواني. توازن طفيف أخذني في تلك المرحلة إلى سرد مفتوح لا جهة له، حملني إلى كتابةِ زعمتُ أنها رواية أسميتها (الحالة)، تبعتها بثلاث مخطوطات، اعتبرتها تمارين غير ناضجة، جعلتني أقلع عن السعي إلى الرواية؛ إذ نقصني أن أكتشف نفسي، وأراها مليّا.

 

إقلاعي عن الكتابة الروائية زاد من نهمي للقراءة، حتى قراءة الصحف التي لم يكن يهمني فيها شيء مثل الصفحات الثقافية. أتتبع أخبار عالم يعنيني عبر مسافة طويلة، أكبر مما هو بين الصحراء، وبين مدن تضج بالصخب والحياة. كنت أكتب مقالات، وآراء، وقصصًا، وأودعها خزانتي، لأحافظ على توق خشيت عليه من تلك المسافة؛ ففي زمن الجيش لم يكن لي بحكم القوانين العسكرية أن أكتب للصحافة، أو أحضر ندوات، أو أي حدث ثقافي. كان عليَّ أن أكون الكاتب، والناقد، والقارئ في آن واحد. أمر لم يكن يهمني إلا عندما قررت أن أطلع القراء على ما كتبت؛ إذ وعيت مبكرًا أن الكتابة الأولى لأي نص هي رؤية فطرية للعالم من نوافذنا الداخلية. رؤية مجنونة، متهورة، غير محكومة بشيء. تمامًا كمن يتحدث بسره، وهو يدرك أن لا أحد يسمع ما يقول، وهذا ما حدث لي في كتابة يومياتي. أما الكتابة الثانية يصاحبها شكل غير قمعي من الحرص، والخوف من حفرة الخطأ، لأن ما كُتب سيصبح فيما بعد ملكًا لشخص غير كاتبه، يمضي إليه من زاوية ربما لم تخطر ببال الكاتب.

 

منحتني مرحلة الصحراء أن أعيش ما عاشه أدباء اجتازوا مراحل كثيرة نحو الاستقرار في مطبخ الكتابة. ودفعتني إلى العيش اللذيذ عند منطقة الكتابة الأولى. لم أكن أدري وأنا كوعل مقيد أتوق نحو عوالم الصخب الأدبي أن عليّ في السنين القادمة أن أحافظ على هذا القرب من النقطة الأولى، وأحميها مما يمكن أن يهددها في أوساط المثقفين، وصخب المدن، والانتكاسات اليومية. طالما اعترفت لنفسي أن الضجيج الجواني هو من جاء بكل ما كتبت. وطالما وجدت نفسي حائرًا فيما إذا عثرت على دواء لهذا الضجيج فهل أوافق مقابل خسراني الكتابة، أم أعقد تصالحًا أبديًا معه؟

 

حين لمس زملائي علاقتي بالقراءة والكتابة أكثر مما اعتادوا عليه؛ سخروا بوعي من هم على يقين من ألا جدوى مما أفعل. لكنني حافظت على تجاهل ما يرونه؛ فالكتابة بحد ذاتها يد كونية حمتني من السقوط. لم أكن منعزلًا بشكل متطرف، لكني احتفيت بعزلتي بوعي غالبًا ما يؤدي إلى الكتابة. كنت أبدد المسافة بين مقر عملي والثكنة مشيًا رغم ما تفعله شمس الصحراء وهي للتو تميل عن مستقرها الأوسط في السماء، أتأمل وجهها النهاري، وأتفكر بزاويتها الأحادية أمام حيوات متنوعة خارج حدودها. ألمس الرمال الساخنة، والأعشاب الجافة، والشجيرات التي تكتفي بزخة مطر واحدة لتعيش عامًا كاملًا. أحدق بالزواحف ذات اللون الصحراوي، وبعصفور يحط على شجيرة ويراقب الأفق اللامتناهي. وكلما مشيت أشرعت نوافذ في مخيلتي. وجه الصحراء النهاري أخذني إلى الشعر لأبتكر عوالم تقف بوجه قسوة الصحراء؛ فكتبت قصائد في تلك السنين تحكي عن أيائل تهبط من رؤوس الجبال محملة بسلال فيها كرات ضوئية لا تنطفئ. وعن نساء يمشين على الماء عرايا. وعن شجر يمد ثماره للعابرين. علمتني الصحراء لماذا الشعر ديوان العرب، وكيف للمخيلة أن تخرج على الواقع، وتناكفه بالخيال.

Your Page Title