تاريخ عمان

الدور الحضاري لعلماء عمان خلال القرن 11هـ/17م

أثير- د. موسى بن سالم البراشدي
أكاديمي بقسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس


الدور الحضاري لعلماء عمان خلال القرن 11هـ/17م
الدور الحضاري لعلماء عمان خلال القرن 11هـ/17م الدور الحضاري لعلماء عمان خلال القرن 11هـ/17م

أسهم العلماء العمانيون في بناء الحضارة الإسلامية في مجالات عدة، أبرزها المجال الثقافي؛ إذ قدَّموا للإنسانية تراثاً فكرياً في مختلف الميادين، كما أسهموا في المجالات السياسية والإدارية والعسكرية، فكانوا بناة للوطن ودرعاً حصيناً له، فعملوا على تحقيق وحدته وأمنه واستقراره جنباً إلى جنب مع قادته السياسيين، واضطلعوا بمسؤولياتهم الوطنية تجاه كل ما يُعرِّض وحدته للخطر كما حدث في مطلع القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، عندما بادر العلماء إلى إنقاذ الوطن مما حلَّ به من انقسامات داخلية وتعرَّض له من احتلال لبعض أجزائه الساحلية، فأخذوا يتراسلون فيما بينهم لمناقشة تلك القضايا السياسية، فكانت مراسلاتهم تحمل وميض الأمل لحل تلك المعضلات، وكان المحرك الأساسي لتلك المبادرة الشيخ خميس بن سعيد بن علي الشقصي الرستاقي.

لم يكن الشقصي مجرد عالم دين فقط، وإنما كانت له إسهامات في علوم أخرى مثل علم الفلك كما تُشير إلى ذلك فتاواه المتناثرة في ثنايا الكتب الفقهية، كما قدَّم دوراً سياسياً مهماً تمثل في قيادة العلماء نحو التغيير لتحقيق الأمن والاستقرار لعمان عندما أقدم على مبايعة ناصر بن مرشد إماماً على عمان عام 1034هـ/1624م، بعدما اتفق مجموعة من علماء عمان – قدَّرهم المؤرخون ما بين أربعين إلى سبعين عالماً – على اختياره حاكماً لعمان كلها، بهدف لملمة الشتات وطرد الغزاة.

على الرغم من الأوضاع التي كانت تمر بها عمان قبل عام 1034هـ/1624م من حيث الانقسامات الداخلية إلى عدد من المقاطعات المتناحرة فيما بينها، وكذلك الوجود البرتغالي الجاثم على السواحل العمانية المتخذ من عدد من مدنها وموانئها الساحلية قواعد له مثل صور وقريات ومسقط ومطرح وصحار ولوى وصولاً إلى خورفكان وخصب ودبا؛ كل تلك الأوضاع لم تثن علماء عمان عن الإسهام العلمي والسياسي والعسكري، ففي المجال العلمي نجد لهم إسهامات قيمة في مجالات عديدة ففضلاً عن علوم الشريعة واللغة والأدب، فقد أسهموا في مجالات العلوم التجريبية، ففي الطب ظهر عدد منهم كان من بينهم الطبيب سليمان بن إبراهيم بن محمد العوفي ومن أشهر مؤلفاته كتاب “جواهر المنافع”، وكتاب ” قصيدة الكشف والإيضاح في علم الطب والأرواح”، وهناك غيره من الأطباء الذين وُجدت لهم أثار طبية متناثرة في بطون الكتب وما زالت مؤلفاتهم في طور البحث من قبل الباحثين والدارسين والمهتمين، أما في مجال الفلك فقد وُجد العديد من الفلكيين بعضهم أوردهم صاحب كتاب “فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم”، ومن أبرزهم الشيخ الفلكي خلفان بن جمعة السليماني مؤلف كتاب “شمس الآفاق في سر الملك الخلاق”، والشيخ سليمان بن عامر الريامي مؤلف كتاب “كشف الأسرار المصونة في إخراج الضمائر المخزونة في علم الرمل”، والشيخ عمر بن مسعود المنذري مؤلف كتاب ” كشف الأسرار المخفية في علم الأجرام والرقوم السماوية”.

أما في المجال العسكري فكان دور العلماء بارزاً، إذ كانوا في مقدمة الجيوش التي جابت عمان من شمالها إلى جنوبها لتحقيق الوحدة العمانية تمهيداً للبدء في مواجهة العدو الخارجي، وليس أدل على ذلك من شخصية عبدالله بن محمد بن غسان الخراسيني مؤلف كتاب “خزانة الأخيار في بيوعات الخيار” الذي قدَّم إسهاماً كبيرا في استعادة بلدان الظاهرة والبريمي والوصول إلى لوى على ساحل الباطنة، من خلال قيادته لجيش كبير ضمَّ عدداً من الكتائب تولى قيادتها أيضاً مجموعة من العلماء من أمثال الشيخ محمد بن سيف الحوقاني، والشيخ خميس بن رويشد المجرفي، والشيخ حافظ بن سيف الهنوي، والشيخ محمد بن علي الحراصي؛ وتأتي مشاركة هؤلاء العلماء في قيادة الجيوش استكمالاً لدورهم السياسي ولاسيما عند إعلان البيعة لناصر بن مرشد بالإمامة وتعهدهم بالوقوف إلى جانبه لتحقيق الأهداف الوطنية العليا، حيث كان الشيخين الخراسيني والمجرفي من ضمن العلماء الذين أشارت إليهم المصادر التاريخية في حضورهم لتلك البيعة في مسجد قصرى بالرستاق.

كذلك أسهم العلماء في تحرير السواحل العمانية من السيطرة البرتغالية وكانوا قادة الجيوش المتجهة إلى السواحل العمانية، ومن أمثال هؤلاء العلماء الشيخ خميس بن سعيد الشقصي مؤلف كتاب “منهج الطالبين وبلاغ الراغبين”، والشيخ مسعود بن رمضان النبهاني، والشيخ بلعرب بن أحمد بن مانع الإسماعيلي الذين تمكن من تحرير صور وقريات من الاحتلال البرتغالي، ولم يكتف العلماء بذلك وإنما وقفوا إلى جانب الأئمة في تطهير منطقة المحيط الهندي من البرتغاليين بعد تحرير عمان منهم عام 1650م، حيث وصلوا إلى السواحل الغربية للهند وتمكنوا من هزيمة البرتغاليين في معركة ديو البحرية عام 1668م، إذ كان قائد الجيش العماني الشيخ مسعود بن راشد بن علي التوبي، كما قاد الشيخ محمد بن مسعود الصارمي مؤلف كتاب “قصيدة في الصرف” الجيش العماني المتجه إلى تحرير بته في سواحل أفريقيا الشرقية عام 1679م، وتتابعت بعدها المعارك حتى أصبحت البحرية العمانية مسيطرة على شمال المحيط الهندي.

استمر العلماء العمانيون يسهمون في بناء الدولة سياسياً وإدارياً فكانوا مستشارين للأئمة كما تولوا مهام القضاء فكان منهم القاضي الأول والقضاة في الولايات وبعضهم تولى مهمة الوالي والقاضي في آن واحد مثل الشيخ درويش بن جمعة المحروقي مؤلف كتاب “جامع التبيان الجامع للأحكام والأديان” وكتاب “الدلائل في اللوازم والوسائل”، وبعضهم تولوا مهمة الولاية في ولايات كبرى مثل الشيخ خلف بن أحمد الرقيشي مؤلف كتاب “مصباح الظلام في شرح دعائم الإسلام”، إذ تولى ولاية الصير في أقصى شمال عمان وتشمل المنطقة الممتدة من جلفار (رأس الخيمة حالياً) إلى صير بني ياس في أبوظبي الحالية، كما أسهموا في إدارة أموال الدولة ومنهم على سبيل المثال الشيخ محمد بن عمر بن أحمد بن مداد الناعبي في زمن الإمام ناصر بن مرشد، والشيخ سعيد بن بشير الصبحي في زمن الإمام سلطان بن سيف الثاني.

كذلك أسهم العلماء في خدمة مجتمعهم فكانوا قريبين من أفراد المجتمع يقودون المبادرات الخيرة ويعملون على تقديم النصح والإرشاد بهدف الإبقاء على نسيج المجتمع متماسكاً مترابطاً، ولذلك كانوا يُحذرون من الفرقة والانقسام، ومن أمثلة هؤلاء الدور الذي قام به الشيخ درويش بن جمعة المحروقي عندما خاطب أهل الخضراء ونصحهم إلى ترك الخلاف والنزاع القائم بينهم ودعاهم إلى إصلاح ذات البين؛ وكذلك وقف هؤلاء العلماء على تنفيذ مصالح المجتمع من خلال القيام بدور وكلاء للمساجد وللأفلاج وللأيتام ولمن تم فقدهم ولم يعثر عليهم، وأحياناُ ينظرون في تعيين الأصلح للقيام بتلك المهام، وكل ذلك بهدف تحقيق الأمن والاستقرار والنهوض بالمجتمع، ولذلك ازدهرت عمان بتكاتف حكامها وعلمائها ومثقفيها لتحقيق الرؤية التي وضعوها نصب أعينهم منذ مطلع التاريخ الحديث لعمان بقيام دولة اليعاربة عام 1034هـ/1624م، والتي تتمثل في رفعة الوطن وقاطنيه سواء من أهله أو القادمين إليه، ولاسيما بعدما تحقق الأمن والاستقرار وأصبحت عمان منطقة جذب للكثيرين ممن وفدوا إليها وأسهموا في بنائها إلى جانب أهلها وأبنائها.