الجزء السادس من تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م

الجزء السادس من تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م
الجزء السادس من تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م الجزء السادس من تفاصيل رحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م

أثير – تاريخ عمان

أثير – تاريخ عمان

إعداد: نصر البوسعيدي

إعداد: نصر البوسعيدي

ذكرنا في ختام الجزء الخامس لرحلة أول سلطان عربي في التاريخ تطأ قدمه بريطانيا سنة 1875م تفاصيل المأدبة الملكية الغنائية التي أقامتها الملكة فيكتوريا بمناسبة زيارة السلطان برغش لها في إنجلترا، وبحضور عدد كبير من الشخصيات رفيعة المستوى ومن مختلف دول العالم الكبرى آنذاك، وبعدما فرغ السلطان من الحفل عاد إلى منزله وهو بغاية السرور ليستعد في اليوم التالي لتكملة رحلته في بلاد الإنجليز..

 

في زيارة سعادة السلطان للورد ماير حاكم لندن

خرج السيد برغش أعزه الله في بعض حشمه يريد زيارة اللورد (ماير) حاكم لندن وكانت هذه أول زيارة رسمية زار بها قلب المدينة مركز الأشغال والتجارة، وكان وصولهم إلى دار الحكم وقت الظهر في 25 جون (20 جمادي الأولى)، وكان على باب دار الحكم الفرقة 93 من جنود استكلندة مصطفة في سلام سعادته تحت قيادة الماجيور (نينتنغال) في درج الدار.

وفي دخوله نفخت الجنود بالأبواق تسليما على سعادته وترحابا بقدومه فلما سمع السيد صوت تلك الأبواق التفت إلى خليله جرجس باجر الفقيه وقال وهو يبتسم ” قد ذكرتني هذه الأبواق بما سمعته مرارا في زنجبار “.

وكان في قاعة الاستقبال اللورد (ماير) وزوجته، والشريف (إيليس)، والشريف (ايلليوت)، والشريف (سدويك)، وبعد أن سلم السيد على حاكم لندن وظهرا سرورهما من مشاهدة بعضهما بعضا، عرض حاكم لندن على سعادته أن في نية عمدة مدينة لندن أن يقدم لسعادته عرضا في 22جولاي (تموز) في قاعة (كيلد هول) وأن لورد ماير نفسه يريد أن يتخذ لسعادته مأدبة في دار الحكم ويطمع في أن يشرف بحضوره إليها فأجاب السلطان دعوته بلطف وشكرا وأثنى على مكارمه العميمة، ثم صافحه وانصرف بسلام مكملا جولته في المدينة.

في زيارة السلطان لبنك أف انكلند

بعد خروج السلطان من دار الحكم قصد الفرجة على بنك (أف إنكلند) المحاذي لدار الحكم، فلما دخل أستقبله مديرو البنك وساروا به يفرجونه على ما في البناء من النقود والخزائن والذهب والفضة والنحاس، فأدخلوا سعادته أولا إلى قاعة طبع أوراق البنك فسر السيد غاية السرور بما رأى فيها من الأوائل التي كانت تطبع أوراق بنك بقيمة خمس ليرات (باون) وأوراق بقيمة عشرين روبية لحكومة الهند.

ولفرط سروره بتلك الأوائل الغريبة التركيب أخذ السيد يستقصي في أحوالها ويستفهم من مدير البنك عن تفاصيلها باعتناء شديد فأخذ المدير يشرح لسعادته عن أحوال تلك الأوائل بتفصيل.

ثم ساروا بسعادته إلى قاعة النقود وهناك عرضوا على السيد برغش أن يوقع اسمه الشريف على ورقة بنك بمبلغ 1000 ليرة فتناولها السيد وكتب فيها اسمه الكريم بخطه ثم سلمها إلى مدير البنك.

ثم دخل السيد قاعة وزن الذهب والنقود ورأى فيها آلة صغيرة عجيبة التركيب تزن الليرات من تلقاء ذاتها وتفرق بين الليرات الناقصة من الكاملة ثم ترمي بالناقصة إلى جهة والكاملة إلى جهة أخرى.

ومن غرائب هذه الآلة أنها تقف بضع ثوانٍ عندما تزن الليرة لإتقان معيارها فقال السيد لجرجس باجر الفقيه وهو يمزح: ” أرى هذه الآلة كأنها تفكر عندما تزن الليرة لتتحقق ثقلها قبل طرحها إلى جهة من الجهتين “.

ثم ساروا بسعادته من هناك إلى قاعة أوراق البنك والصكوك الكائنة في كهف تحت الأرض وفي دخول السيد برغش إلى هذه الخزنة عرض مدير البنك عليه أوراق بنك قدرها مليون ليرة وفرجه أيضا على كومة أخرى من أوراق البنك بمبلغ ملايين الليرات مما يدهش العقل.

ثم أدخلوا سعادته إلى قاعة أخرى من قاعات ذلك الكهف كان فيها صندوق من حديد كبير الحجم ففتحه المدير فرأى السيد فه صرات عظيمة من الذهب، فتناول المدير منها صرة وسلمها للسيد الذي قال: ” كم في هذه الصرة من النقود؟ قال المدير: ألف ليرة .. فتبسم السلطان وقال مازحا: ما حاجتنا بمشاهدة غير هذا الصندوق، فليأخذ كل منا صرة ويخرج وهو خير فرجة وغنيمة “.

وكانت أعمال وأشغال البنك سائرة على المألوف دون أن يحصل توقيف فيها حين كان السلطان يتفقد أحوال البنك ومخادعه، وكان الناس قد اجتمعوا من كل فج عميق إلى ساحة البنك يريدون مشاهدة سعادته، وكان حراس البنك ساهرين على حفظ الهدوء والترتيب ومنع القلائل والازدحام.

ثم خرجوا بالسيد من البنك وساروا به إلى دار السكة التي تضرب فيها الدراهم، وفي ذهابهم كان الشعب يتقاطر أفواجا ليرى سعادة السلطان، ولما وصل إلى دار السكة خرج إلى لقائه مستر (فريمنتل) مدير دار السكة ومعاوناه، وأدخلوه إلى أماكن الشغل وطلبوا منه أن يدون اسمه الشريف في سجل الزوار حسب العادة ففعل.

ثم ساروا به إلى أتون النار حيث يصهرون الذهب والفضة وباقي المعادن، ثم انتقلوا من هناك إلى مكان سكب قضبان الفضة والذهب وتوطئة لسك الدراهم والدنانير ثم ساروا به إلى مكان قطع القضبان أقراصا في شكل صحائف مستديرة استعدادا لضربها ليرات، وكانت الآلة تضرب ثم تطبع 600 ليرة في برهة دقيقة من الزمان.

وبعد أن فرغ السيد من الفرجة على كل ما يستحق النظر شكر مدير السكة وأعوانه وصافحهم وودعهم وخرج بحشمه إلى المراكب حيث صرف بقية نهاره في الفرجة على حسن الميناء ومرساها وترتيبها ثم عادا مسرورا إلى قصره.

في لقاء سعادة السيد برغش لعمدة المرسلين

في اليوم السادس والعشرين من شهر جون (حزيران) (21 جمادي الأولى) زار عمدة جماعة المرسلين السيد برغش في منزله يرأسهم اللورد شيشستر، وكانت العمدة مؤلفة من الشريف آرثور كينرد من أعضاء مجلس النواب ومستر هابيل سميث من أعضاء مجلس النواب وغيرهم.

وكان في معية سعادة السلطان الدكتور كيرك وجرجس باجر الفقيه ومستر كليمنت هيل.

فنهض اللورد شيشستر وتلا خطابا باللغة الإنكليزية ترجمه إلى العربية الفقيه جرجس باجر إلى سعادة السلطان وهذا ملخصه:

“قد أنشأت جماعة المرسلين مدارس ومنازل لتهذيب الزنوج في سواحل أفريقية الشرقية منذ أربعين سنة وأكبر مراكزها في جزيرة ممباسا على مسافة مائة ميل من جزيرة زنجبار ولها مركز آخر في أصل البر على مسافة نحو 30 ميلا من الساحل.

وقد اقتصر هؤلاء المرسلون على تعليم الزنوج وتهذيبهم ولم يتعرضوا إلى العرب والمسلمين وواحد من هؤلاء المرسلين اسمه ربمان قد برع في إتقان لغة الزنوج حتى صار كواحد منهم في لهجة اللسان وأوسعهم علما في جوامع الكلام والثاني منهم الدكتور أكراب قد نبغ في سياحته في قارة أفريقية واكتشف فيها أمورا مهمة في فن الجغرافية، وقد ذكر سار بارتل فرير في مخابراته مع الدولة البريطانية المحفوظة في كتاب الدولة الأزرق عن سعي هؤلاء المرسلين في تهذيب الرقيق المعتوقين وتعليمهم واجبات الإنسانية في ظل ظليل سعادة السيد برغش سلطان زنجبار وما يليها.

وقد ذهب المرسل ابرايس من ناصيق الى ممباسا لينشئ محلا يأوي إليه الرقيق المعتوقين وقد أخذ معه سبعة رجال ليساعدوه في هذا العمل المبرور، وقد عولوا على تعليم أولئك الرقيق المعتوقين صناعة الحراثة والزراعة وباقي الصنائع اللازمة لقيام المعيشة والتمدن.

وقد وعدت هذه الجمعية جلالة الملكة أن يعتني أولئك المرسلون بتهذيب جميع الرقيق الذين يسلمون لعنايتها وأن يعلموهم جميع الصنائع اللازمة دون مقابل، ثم كان حاكم ممباسا أن تعرض للمرسلين وأنكر عليهم قطعة من الأرض طولها نحو مسافة ميل كان يحتاج إليها المرسلون لإنشاء مدرسة، ولكن لما عرض الدكتور كيرك هذه المسألة على سعادة السيد برغش أمر السيد بأن يرسل خبرا إلى حاكم ممباسا بألا ينغص على المرسلين ولا ينكر عليهم شيئا مما يحتاجون إليه وبحسن مساعي السيد زالت جميع المصاعب.

ولم يقتصر سعادة السلطان على هذه المكارم بل أمر أن تعفى من المكوس والضرائب جميع الأمتعة والبضائع التي يستجلبها المرسلون من أوروبا إلى بلاده لحاجة المدارس ولوازم المرسلين ولهذا حق على هذه الجمعية أن تشكر لسعادة السلطان هذه المكارم العميمة وتطلب إلى الحق -سبحانه وتعالى – أن يطيل عمر سعادته بالإقبال والعز.

ثم لا يخفى على ذوي الألباب أن نطاق التجارة قد اتسع غاية الاتساع منذ عني السيد برغش بتحرير الرقيق وإبطال تجارتهم من بلاده والدليل على ذلك واضح فإن بلد لاغوس لم يكن فيها تجارة أصلا لما كان أصحاب هذه التجارة الذميمة يترددون إليها بالرقيق، ومن بعد إبطال تجارة الرقيق صار يدخل إليها ويخرج منها أموال بقيمة مليون ليرة كل سنة”.

فلما اطلع السيد برغش على فحوى هذا الخطاب كتب في جوابه رقعة بالعربي ثم ترجمها جرجس باجر الفقيه إلى اللغة الإنجليزية وهذا مختصره:

“أيها السادات العمدة الكرام قد سررنا غاية السرور بالعرض الذي قدمتموه لنا وبترحابكم بوصولنا إلى بلادكم السعيدة فنسأل الحق سبحانه وتعالى أن يسبغ عليكم وعلى جميع المحسنين إنعامه ويجزل ثوابكم.

وأما نحن فلا يخفى علينا سعيكم وغيرتكم في إصلاح شأن الرقيق الذين قد سعينا في تحريرهم وما زلنا نسعى جهدنا بعونه تعالى، أما تقديمكم الشكران لنا على مساعدتنا المرسلين في بلادنا فهو حسناتكم الجميلة فإن ما فعلناه إلى الآن وما سوف نفعله في المستقبل بعونه تعالى فهو لوجه الله الكريم وعسى أن يكون ذلك حسنة عند الله جل جلاله وعم نواله وهو حسبنا ونعم الوكيل”.

حرر في محروسة لندن في 26 جون 1875م..
الإمضاء: السيد برغش بن سعيد..


وفي أثناء ذلك نهض شيشستر وقدم إلى سعادة السلطان كتابا مموهة حواشيه بمحلول الذهب يحتوي على خرائط رسم الأرض، فتناولها السيد منه بشكر جميل ولطف أثيل، ثم قدم له رئيس عمدة المرسلين كتابا نفيسا يحوي أخص لغات الزنوج الخاضعين لملك سعادته، فحاز على حسن القبول في أعين السيد أعزه الله وأبقاه.

في فرجة السلطان على معبد وستمنستر أباي

بعد انصراف عمدة المرسلين، خرج السيد برغش وحشمه المقربون وقت الظهر يريد الفرجة على معبد ” وستمنستر أباي ” الذي تم بناؤه في القرن السابع للميلاد، فلما وصل إليه السلطان خرج إلى استقبال زعيم الدين ديان استانلي وهو لابس ثوبه الرسمي في زي تلامذة مدرسة أكسفورد، فساروا بسعادته في أروقة المعبد وصحنه وصاروا يتفرجون على ما فيه من النقوش وحجارة القبور وتماثيل ملوك الإنجليز الذماء والرجال والأدباء والعلماء والأفاضل، وشاهدوا فيما بين هذه التماثيل ، تمثال الفاضل فوكس ويلبرفرس، وقبر داود ليفينكسون الذي ضحوا بحياتهم لإبطال تجارة الرقيق في أفريقية، وفيما كان السيد برغش يتجول في صحن المعبد لاحت منه التفاتة إلى مجموعة صور كانت معلقة على جدران المعبد فنظر إلى واحدة منها وتعرف عليها فهي فوتوغراف لجبل موسى (طور سينا).

ثم في ختام الفرجة غنى المغنون مقامة الدولة البريطانية على دقات موسيقى الأرغن وخرج السيد من المعبد بعد أن لبث برهة من الزمان أمام تمثال شكسبير الشاعر الإنكليزي.

===========•=========

المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة – مسقط.

المرجع

Your Page Title